يولد الإنسان وحيداً ثم يبدأ بالتعرف على أمه وأبيه إن وجدا، فإخوته ثم يتوسع شيئًا فشيئًا حتى يدخل المدرسة فيتعرف على من لا يشبهونه إلا في الشكل الخارجي، ويتوسع في معارفه طيلة فترة المدرسة حتى يصل إلى الجامعة فيتعرف على من يغايره في الشكل والمضمون وحينها يبدأ مرحلة المسؤولية في اختيار معارفه، وماسبق كان سرداً سريعاً لعموم التجارب التي تحدث مع أغلب البشر. نعود إلى لحظة الولادة، وهي المقترنة بالعزلة والوحدة، وفيها تبدأ حالة الخوف من فقدانه للمكان الآمن الذي كان فيه طيلة شهور الحمل، ولعل صرخته الأولى دليل محسوس على رفضه لهذه المرحلة التي تجعله مسؤولاً عن نفسه، مكلفاً بالغريزة، ويستمر في حماية الوالدين لحين بلوغه فيصبح مكلفا بأمرين؛ الغريزة والتشريع، فيزداد الخوف الطبعي بداخله كي لاتعود وحدته الأولى، وانهيار كل مافعله طيلة سنواته الماضية من تكوين العلاقات الاجتماعية التي تطرد شبح العزلة من عالمه، وهذا قد يفسر سعي الفرد إلى الفضول الملازم له في كل أحداثه، فهو يحب التعرف على كل شيء ليشغل ذهنه عن لحظته الأولى المخيفة نفسياً له، وقد يصل به الأمر إلى اكتساب معارف لاتصلح لبنيته الأخلاقية والعقلية، بل يفعل مالايمكن قبوله عرفيا كي يبقى موجودا في ذهن غيره فيتأكد وجوده وينمو! يستعين الفرد بعدة دفاعات في حياته كي يبقي وجوده، وهذه الدفاعات لاشعورية في بنيتها الأولى، وغير قابلة للفناء، ومنها التبرير والإسقاط النفسي، وهذه الأخيرة تحديداً يمارسها الفرد باستمرار عله يخرج من تأنيب الضمير والبقاء وحيداً دون مشارك في الفعل -أو الجرم- فيختلق أحداثاً لم تكن ويسقطها على غيره، وإذا كان أسلوبه مقنعا فسيواجه احتواء من الآخر واعتذاراً منه، وهذا يشعره بالانتماء والقوة الداخلية، ويطرد منه أوهام اللحظة الأولى! مهم جدا لكل فرد أن يتيقن بمشاركة غيره له، وأنه ليس وحيداً في هذه الحياة، وكل ما عليه فعله؛ تحسين تواصله مع غيره حتى يرزق بمن يصلح له. طارق القرني