مع التطورات التي يشهدها العالم اليوم في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومع التطورات المعرفية والعلمية التي باتت ضرورة حياتية أكثر من ذي قبل لما تتطلبه من مواكبة لعصر العولمة وتجلياته، أصبحنا نعايش ثورة معرفية حقيقية دفعت معظم الدول المتقدمة وتلك الهادفة للتطور لتحويل اقتصاداتها شيئاً فشيئاً إلى ما يطلق عليه اليوم باقتصاد المعرفة، والذي يشير إلى مجمل الجهود والخطط الرامية لإنتاج ونشر واستخدام المعرفة في قطاعات الدولة المختلفة بهدف استثمار ذلك من خلال بناء قاعدة اقتصادية وطنية تعتمد رأس المال الفكري بما تتضمنه من ابتكارات وتكنولوجيا وتقنيات معاصرة للنهوض بالدولة، وهنا فإن التساؤل يُثار حول ماهية اقتصاد المعرفة عموماً وتوجهات المملكة في هذا الجانب خصوصاً، وهو ما سنحاول إيضاحه من خلال بعض المحاور اللاحقة. أولاً: اقتصاد المعرفة من حيث النشأة والمفهوم يرى أغلب المهتمين في الشأن الاقتصادي والاجتماعي أن ما يطلق عليه اليوم اقتصاد المعرفة هو تطور اقتصادي اجتماعي طبيعي وحتمي للتطور الإنساني في شتى المجالات، وبناء على هذا فقد ربط المؤرخون تطور المجتمع البشري بثلاث مراحل رئيسة كانت قد تشكلت من خلال ما يطلق عليه بالثورات الكبرى؛ وهي الثورة الزراعية ما قبل القرن الثامن عشر، والثورة الصناعية من بدايات القرن التاسع عشر، ثم الثورة المعرفية منذ ستينات القرن العشرين وإلى يومنا هذا. وفي هذا السياق يرى البعض أن الثورة المعرفية قد اختلفت عن سابقتيها من خلال تحول نمط الإنتاج العلمي والتقني من مرحلة الإبداع الفردي إلى مرحلة الإنتاج الجماعي والمؤسسات في القرن العشرين. ثانياً: اقتصاد المعرفة من حيث التعريف والقياس تعد المعرفة قاعدة أساسية يبنى عليها مجتمع المعرفة؛ وهو المجتمع القائم على النمط الاقتصادي المعروف باسم اقتصاد المعرفة، وعلى ذلك نجد كثيراً من التعريفات الخاصة به والتي يتم تداولها على المستوى العلمي والأكاديمي، ومنها تعريف فيرتز ماكلوب القائل: اقتصاد المعرفة هو ذاك الاقتصاد المبني على المعرفة بحيث تفوق فيه أعداد العمالة في القطاعات المنتجة للمعرفة أعداد العمالة في باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى. بينما يرى مارك بورات أنه ذلك الاقتصاد الذي تلعب فيه القطاعات المنتجة والمستخدمة للمعلومات الدور الرئيس في الاقتصاد مقابل القطاعات التقليدية التي تعتمد المواد الخام والطاقة في إنتاجها. وعلى ذلك فإن الدول قد تختلف وتتباين في مستويات اعتمادها هذا الشكل أو النمط الاقتصادي وعلى خلاف الأنماط الاقتصادية الأخرى فإن هذا النمط قابل للقياس وفق عدة مؤشرات ومعايير كمؤشر البحث والتطوير ومؤشر التعليم والتدريب ومؤشر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ثالثاً: المملكة العربية واقتصاد المعرفة تمثل رؤية المملكة 2030 خطة اقتصادية سياسية اجتماعية متكاملة هادفة إلى إحداث تحول وطني على المستويات السالفة الذكر، وفي هذا السياق فإن التحول والتوجه نحو اقتصاد المعرفة يعدان من أولويات تلك الرؤية ومهندسها ولي العهد محمد بن سلمان -حفظه الله-؛ فعلى الصعيد العلمي ساهمت المملكة في 2020 على سبيل المثال بنسبة 22.7% من إجمالي عدد الأبحاث العلمية في الوطن العربي، وبنسبة 23% من إجمالي عدد الاستشهادات، وبنسبة 61% على مستوى دول منطقة الخليج العربي، حيث كان إنتاج المملكة في مؤشرات البحث والتطوير يساوي إنتاج قرابة 12 دولة عربية مجتمعة "قطر، اليمن، ليبيا، سورية، الصومال، موريتانيا، لبنان، جيبوتي، المغرب، الأردن، السودان، الكويت"، وبترتيب 27 عالمياً. وكذلك أحدثت المملكة تقدماً ملحوظاً في مؤشر التعليم والتدريب، فقد بلغ عدد الجامعات الحكومية السعودية 25 جامعة، وأكثر من 157 مركزاً للأبحاث، إلى جانب إنشاء أول مركز للاقتصاد المعرفي في الوطن العربي، والذي دشن مطلع 2019 في جامعة المؤسس بمدينة جدة، حيث تضمن عدة وحدات تخصصية، كوحدة الاقتصاد والتنمية، ووحدة المعرفة، ووحدة التميز المعرفي، ووحدة العلاقات العامة والإعلام وغيرها. أما على الصعيد المعلوماتي "البياناتي" عصب الثورة الاقتصادية الحالية فقد بنت المملكة خطة متكاملة لخلق بيئة نموذجية تؤمن بعصر البيانات والذكاء الاصطناعي؛ وذلك بالارتكاز على ثلاثة محاور تعتمد أولها على تطوير وابتكار وتبني تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء المملكة، فيما يرتكز المحور الثاني على ضمان أن تكون هذه التطبيقات مبتكرة ومستدامة ومفيدة وأخلاقية خاصة بالبيانات والذكاء الاصطناعي، ويرتكز المحور الأخير على ضمان وجود بيئة جاذبة وبنية تحتية عالمية المستوى ومنظومة للتجريب وحوكمة للبيانات ومجموعات بيانات مميزة. وفي التقدم الذي أنجزته المملكة بهذا المجال صرحت الدكتورة دلال الحارثي المهندسة في مجال أمن المعلومات بغرفة الرياض أن 66% من أهداف رؤية 2030 تم تحقيقها بمساعدة علم البيانات، مشيرة إلى التوسع الكبير في استخدامه، مؤكدة أن الربط الإلكتروني بين عدد كبير من الجهات يسمح بتوافر المعلومات وتبادلها في سهولة ويسر، وهو فعلاً ما رصده أحد التقارير الاقتصادية الحديثة في أميركا الذي تحدث عن أن رؤية المملكة 2030 بقيادة ولي العهد -حماه الله- تمثل خارطة طريق حقيقية ومتكاملة هادفة لتطوير وبناء عدة قطاعات اقتصادية وحكومية تعتمد النمط الرقمي المعرفي والاستثماري، وهو ما أكدت عليه عدة تقارير صادرة عن الخارجية الأمريكية ناقشت نزاهة هذه السياسات وقدرتها على إيجاد تنويع اقتصادي حقيقي يرتقي بالمملكة لتكون أهم مركز لوجستي واقتصادي في المنطقة. ختاماً يمكننا القول: إن المملكة العربية السعودية مع رؤيتها 2030 تطمح للوصول باقتصادها الوطني إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى من خلال تنويع الاقتصاد والتركيز على النمط المعرفي بدلاً من النمط التقليدي، وإن مجمل التقارير الاقتصادية العربية والغربية بما فيها مؤشرات المعرفة العالمية في برنامج الأممالمتحدة الإنمائي قد رصدت في السنوات العشر السابقة خطى ثابتة ومتسارعة للمملكة في هذا الاتجاه، ويرى مراقبون أن المملكة يمكن أن تحقق مستويات أعلى بكثير من المستويات الحالية في الأعوام المقبلة خصوصاً مع توافر الكم الهائل من البيانات الضخمة والتطور العلمي في مجال الذكاء الاصطناعي والتحليل المعلوماتي، وفي الوقت نفسه فإني أرى ضرورة تفعيل الذكاء الاصطناعي ولغة الآلة لتصبح ثقافة عمل وعطاء بناءً على الاحتياج العلمي المتنوع في عدة مجالات طبية وطقسية وزراعية وغيرها، ولا تقتصر على الجانب التجاري فقط؛ فولاية فيرجينيا الأمريكية -مثلاً- اعتمدت نظام (AIS) عبر طائرة درون لتطوف على الحقول يومياً وتعطي تنبؤاً عن الحشرات المهددة للمحاصيل الزراعية بأبسط جهد وأقل تكلفة وأثمن نتيجة.