استقر حجاج بيت الله الحرام ليلة البارحة على صعيد مزدلفة بعد أن بدؤوا في التوجه إليها ابتداءً من بعد مغرب أمس قادمين من مشعر عرفات، عقب أن قضوا ركن الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفات ملبين مكبرين ذاكرين الله كثيراً امتثالاً لقول المولى -عز وجل- "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين". وقد تزينت مدينة منى البيضاء لاستقبال ضيوف الرحمن الذين التأمت جموعهم يوم أمس على صعيد عرفات الطاهر، وتوافدت جموع ضيوف بيت الله الحرام مساء أمس إلى مشعر مزدلفة، وقضوا ليلتهم وهم يلهجون بالذكر والثناء على رب العالمين الذين يسر لهم أداء مناسك الحج، تحفهم عناية خالقهم ثم تحيط بهم عناية ورعاية المملكة. يوم النحر وسوف يقوم حجاج بيت الله الحرام صباح اليوم الثلاثاء بأعمال يوم النحر برمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، ثم الاتجاه للمسجد الحرام لأداء الركن الثالث من أركان الحج وهو طواف الإفاضة والسعي لمن لم يسعَ بين الصفا والمروة وسائر أعمال يوم النحر من حلق وتقصير وذبح للهدي والأضاحي والفدي، ثم يعودون مساء الليلة لقضاء الليلة الأولى من ليالي أيام التشريق تمهيداً لرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس من يوم غد، وقامت الجهات الحكومية ذات العلاقة بتقديم كل الخدمات والإمكانات التي تيسر للحجاج أداء مناسك الحج وسهولة وسط إجراءات احترازية مكثفة. الحج الأكبر وعرف يوم النَّحر بيوم الحَجّ الأكبر، لكثرة الأعمال العظيمة التي تُؤدّى فيه، من الوقوف فجرًا بمُزدلفة، ورَمي جمرة العقبة بمنى، وطواف الإفاضة، وصلاة العيد، والحَلْق، إضافة إلى ذَبح الهَدْي ونحر الأضاحي. ولهذا يُعَدّ يوم النَّحر من أفضل الأيّام، وأعظمها، وأجلّها عند الله -سبحانه وتعالى-؛ لقَوْل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ أعظمَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالَى، يومُ النَّحرِ). وقد ذكرَ ابن رجب -رحمه الله- أنّ عيد الأضحى أكبر العيدَين، إذ يحلّ على المسلمين بعد وقوف حُجّاج بيت الله الحرام بعرفة، ومغفرة ذنوبهم، وعِتقهم من النار، ولا يتحقّق ذلك في غير عرفة من أيّام السنة، ولذلك فقد أعقبه الله بعيد الأضحى، ليتمّ الحُجّاج مناسكهم، وتجدر الإشارة إلى أنّ ذلك لا يُحصَر في الحُجّاج فقط، بل يشمل المسلمين جميعاً، كما أنّ يوم النَّحر فيه معظم أعمال الحَجّ، من الرَّمْي، والنَّحر، والحَلق، والهَدْي. ولهذا فهو في بلاد كثيرة من بلدان المسلمين، يسمى العيد الأكبر، أو العيد الكبير، تفرقة له عن عيد الفطر المبارك. تسمية منى ويقع مشعر منى بين مكةالمكرمة ومشعر مزدلفة على بعد سبعة كيلو مترات شمال شرق المسجد الحرام، ويعد داخل حدود الحرم، واد تحيط به الجبال من الجهتين الشمالية والجنوبية، ولا يُسكَن إلا مدة الحج، ويحَدُّه من جهة مكةالمكرمة وجمرة العقبة، ومن جهة مشعر مزدلفة ووادي محسر. ويرجع المؤرخون تسمية (منى) إلى أنها أتت لما يراق فيها من الدماء المشروعة في الحج، وقيل لتمني آدم فيها الجنة، ورأى آخرون أنها لاجتماع الناس بها، والعرب تقول لكل مكان يجتمع فيه الناس مِنى. وبمنى رمى إبراهيم عليه السلام الجمار، وذبح فدية لابنه إسماعيل عليه السلام، وفيه قال عز وجل (( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ))، وذكر بعض المؤرخين أنه كان بمنى مسجداً يعرف بمسجد الكبش. النصر والوداع وبمنى نزلت سورة النصر أثناء حجة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم، وبمنى تمت بيعة الأنصار المعروفة ببيعتي العقبة الأولى والثانية، حيث بايعه عليه السلام في الأولى 12 شخصاً من أعيان قبيلتي الأوس والخزرج، فيما بايعه في الثانية 73 رجلاً وامرأتان من أهل يثرب وكانت قبل هجرته عليه أفضل الصلاة والسلام إلى يثرب. وعلى امتداد الخلافة الإسلامية بنى الخليفة المنصور العباسي مسجداً عُرف بمسجد البيعة في ذات الموضع سنة 144ه، وأعاد عمارته لاحقاً المستنصر العباسي ويبعد نحو 300 متر من جمرة العقبة على يمين الجسر النازل من منى إلى مكةالمكرمة. ويقضي الحاج بمنى يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ويستحب فيه المبيت في منى تأسياً بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء ويحملون ما يحتاجون إليه، وفي هذا اليوم يذهب الحجيج إلى منى، حيث يصلي الناس الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصرًا من دون جمع ويسن المبيت في منى. أيام معدودات ويقضي الحجاج في منى أيام التشريق الثلاثة لرمي الجمرات الثلاث مبتدئين بالجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه، كما جاء في القرآن الكريم (( وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ )) والمقصود بها منى المكان الذي يبيت فيه الحاج ليالي معلومة من ذي الحجة يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده، والأصل اللغوي لكلمة تشريق مادة (شرق) ولها ثلاثة معان، الأول: الأخذ من ناحية المشرق، والثاني: صلاة العيد مأخوذ من شروق الشمس لأن ذلك وقتها، وأخيراً ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهو اليوم الأول من أيام عيد الأضحى وهذا هو الاستعمال الأغلب، وسُميت هذه الأيام بذلك لأن العرب كما قال ابن حجر كانوا يُشرِّقون لحوم الأضاحي في الشمس وهو تقطيع اللحم وتقديده ونشره. دعاء وتضرع في يوم العتق