إنّ النخبة هي الراسمة لواجهة الثقافة، والمحدد لتوجهاتها، تُبرز للجماهير مَنْ تشاء، وتُعلي قدر من تُحبّ، وما ينفذ في الساحة الثقافية إلا مَنْ منحته الإذن، وسلّمته جواز العبور، فهي بوابة إلى القراء ونفق إلى اهتمامهم، ولومها على قَدْر ما يُتوقع منها، ويُظن بها، ويُرجى من ورائها.. ربّما يُلقي بعض القراء بهذا السؤال: ما الذي يجعل الكاتب يتّجه إلى نقد النخبة واللوم لها؟ ما الذي يدعوه إلى الحديث عن نخبة الخليج التي كانت عوناً في الثراء الثقافي والفكري؟ وجوابي سؤالَهم بهذه الأمور التي سأذكرها لهم: أولاً: أنّ فريقاً من النخبة وغيرها يرى أنّها لم تُعطَ حقها، ولم تنل من الاهتمام ما تستحقه، فلم يُعرّف بها الجمهور، ولم تُقدّم إليه، وهذا منها برهانٌ بيّن في لومها على إهمالها النخب التاريخية التي كان لها فضل عليها وعلى غيرها! فمتى أردت شيئاً، فعليك أن تُدرك أولاً أنّ غيرك ينتظرُه منك، ويتوقعه من قِبلك. ثانياً: أنّني أرى أنّ أوجب الواجبات على النخب؛ أن تهدي غيرها إلى خير مَنْ استفادت منه، وانتفعت من تَركته، وما أحسنُ من جميل الواهب إلا جميل المعترف به والْمُنَوّه عنه، وما خافٍ على أحدٍ أنّ مَنْ لا يقوم بواجب غيره، لا يحسن به أن يُطالب غيره بواجبه. ثالثاً: أنّها وضعت نفسها في قارب الأفكار وسفينتها، وما دامت الأفكار همّها وسعيها؛ فلا ريب أنّ من تمام ذلك وكماله أن تحرص على أصول الأفكار، وتُعرّف بها، فتفتح للأجيال التي تعيش معها باب فهم تلك الأصول، وتشرع لها نافذة إلى قراءتها وتدبّر معانيها، حتى تكثر الأفهام حولها، وتجتهد العقول فيها، وننتهي نحن لما نُريد منها، وهو معرفة آثار تلك الشخصيات، والوعي الصائب لما فيها، وإثارة ما يُمكن من جدل الفكر حولها. رابعاً: أنّني أرى في النخبة قدوة لغيرها، بها تتأسّى، وبنهجها تهتدي، ومتى كانت النخبة مُتجاهلة الشخصيات الفاعلة في التاريخ الإنساني، أو غائباً عنها دورها فيه، فما على الباحثين العلميين من حرج حين يتجاهلون تلك النخب، أو يغيب عنهم ما أدّته من دور، وقامت به من عمل، في مرحلة من مراحل التقدم في المجتمع الخليجي. خامساً: أنّ النخبة هي الراسمة لواجهة الثقافة، والمحدد لتوجهاتها، تُبرز للجماهير مَنْ تشاء، وتُعلي قدر من تُحبّ، وما ينفذ في الساحة الثقافية إلا مَنْ منحته الإذن، وسلّمته جواز العبور، فهي بوابة إلى القراء ونفق إلى اهتمامهم، ولومها على قَدْر ما يُتوقع منها، ويُظن بها، ويُرجى من ورائها! ونحن خليجيي اليوم وأهله بين نخبتين، نخبة قديمة، ونخبة معاصرة، وإذا كنتُ لمتُ المعاصرة، ورأيتُ أنّ ما كنتُ أتوقعه منها لم يكن في رأيي هو الذي يحسنُ بها، ويتوافق مع تطلعاتي منها، فقد عرّفت النخبة القديمة، وهي للعرب جميعاً، بالحكماء، وقدّمت صورتهم في مؤلفات مستقلة، ساقت فيها بعض ما أُثر عنهم من آداب، وسردت على صفحاتها بعض ما نُقل عنهم من أقوال، وهي وإنْ فعلت ذلك فلم تأتِ بما كنتُ أطمع به منها؛ لأنها اكتفت بأقوال نُسبت إليهم، وأخبار عُزيت لهم، ولم تُبيّن أفكارهم في كثير من القضايا التي تعرّضوا لها، وتناولوا أطرافها، ولم توضح مناهجهم التي قادتهم إلى ما انتهوا إليه وقالوا به، بل اكتفت بنقل ما أسمته آداباً وحكماً، وكان كثير منه مستوحى من البيئة الإسلامية التي نُقل إليه، وذاك شيء انتبه إليه دارسوها من الغربيين والعرب، ويستطيع القارئ أن يُراجع شيئاً منه في مقدمة بدوي لكتاب حنين بن إسحاق (آداب الفلاسفة) الذي اختصره محمد بن علي الأنصاري. إننا حين نُراجع الحديث عن سقراط في هذا الكتاب، وفي كتابين آخرين، أولهما للقفطي، وثانيهما للشهرزوري، لا نجد فلسفة سقراط، ولا نرى نهجه الجدلي في تفكيره، وهو النهج الذي اتّخذه، وانتهى به إلى ما عُرف عنه من رأي في قضايا كثيرة ومشكلات عويصة تُواجه الإنسان والمجتمع والدولة. لقد اختصر مُخْتصِر كتاب حنين بن إسحاق سقراط في جملة من الآداب، وهكذا فعل القفطي والشهرزوري، أولها قوله: «لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف»، وأوسطها: «لا تردنّ على ذي خطأ خطأه؛ فإنه يُفيدك منك علماً، وتصير له عدواً»، ومن أواخرها أقوال عن النساء منها: «النساء فخٌّ منصوب». وفي ظني أنّ نهج سقراط يُخالف هذه المنقولات ويأباها؛ لأنه أولاً يحثّ تلاميذه على الجدل، ويطلبه منهم، ومَنْ كانت هذه حاله، فقد جعل من نفسه طالباً للعلم، ومتى كان سقراط باحثاً فمن ذا الذي يعلم، ويُترك له المضمار وحده؟ وثانياً لأنه أشهر إنسان كان يردّ أخطاء غيره، ويأخذ بيده إلى ما هو أسلم منها، وثالثاً لأنّ سقراط، وتلميذه أفلاطون، وقفا في وجه تسخير المرأة في مجتمع أثينا، وجادلا في (الجمهورية) عن أنّها قادرة كالرجل في تولي المهام، وأنّ الفاصل في ذلك هو أنّنا «إذا ما فرضنا على النساء نفس مهام الرجال، فعلينا أيضاً أن نُعلّمهن التعليم نفسه»، وهكذا يبين أنّ حال النخبة القديمة قريب من حال المعاصرة، وأنّنا لم نظفر من سقراط بأهم ما تركه وأحسن ما خلّفه.