تكمن القيمة العظمى في قراءة أو تداول أو تعليم الفلسفة في اكتساب طرائق ومناهج النظر الفلسفي التي تنقلنا من متلقين جامدين إلى فاعلين ليس فقط ضمن إطار الفكر الفلسفي فهما وإضافةً وإثراءً، وإنما في التفاعل مع الفلسفة إجبار على الانفتاح على الأفكار، واتخاذ المنطق والجدل والحوار معايير للحكم عليها، مما يخلق ذات ناقدة تدرك أسباب الاختلاف، وباحثة لا تحتكر الحقيقة، كما أن فعل التفلسف سمو بالإنسان وغاياته، ففي الأنطلوجيا يستقل الفكر بإدراك مبدأ العالم كوحدة واحدة، وفي الابستملوجيا بحثٌ في جذور ووسائل المعرفة، وفي الإكسيولوجيا سعي لبحث القيم الأخلاقية والجمالية والمنطقية، ومن هنا ندرك أن من شأن شيوع التفلسف عند المجتمعات أن يغير من واقعها إذ أنه يخلق إنساناً منفتحاً متسائلاً، متذوقا للفن والجمال، ومهموما ببحث القضايا والمسائل الأخلاقية، وفاعلا إيجابيا في مجتمعه إذ أنه يبحث في تغييره نحو الأفضل منطلقا من تحليل عقلاني للواقع. يمكن لنا أن نقارب الفلسفة بوصفها مذاهب متعددة ينتج عنها رؤى وتصورات وخلاصات تخص الوجود والإنسان وعلاقة كل منهما بالآخر، ويمكن أن نقاربها بوصفها نشاطاً عقليا يتناول جميع مسائل الوجود بالشك والمسائلة، ويعمل بعد ذلك طرائق ومنهجيات مخصوصة بغية الوصول لاستنتاجات تعكس الواقع. وتتمثل في المقاربة الأخيرة اختلاف الفلسفة وتفردها عن جميع طرق البحث العلمية والتأملية، فبينما يقدم العلم التجريبي إلى موضوعه بالملاحظة وتصميم التجارب والوصول لنظريات تفسيرية، تتخذ الفلسفة سبلا مختلفة، فإذا ما اعتبرنا أن وظيفة المنطق هي البحث في مدى ارتباط وتلازم النتائج من المقدمات باستخدام أنظمة منطقية مختلفة ، فإن المنهج الفلسفي معني بالمقدمات وكيفية البدء بها، واختيار طرق نظر جديدة كاستجابة لتحديات فلسفية راهنة، أو عند اكتشاف قصور في أطر النظر القديمة أو فشلها. والمنهج هو عصب عملية التفلسف وقوامها، وهو الثمرة الأساسية التي يجب أن نبحث عن إكسابها للتلاميذ عندما نقوم بتعليم الفلسفة، يقول كانط في هذا السياق (لا ينبغي أن يتعلم الطالب أفكارا وإنما يفكر). وقد فطن لذلك الفلاسفة القدماء إذ أدرج أفلاطون في أكاديميته تمارين على المناهج العلمية وطرائق الجدال، وقد أفرد بعض الفلاسفة أعمالا كاملة تتضمن الكشف عن منهجهم مثل ديكارت في كتابه (مقال في المنهج). ولا يكاد يخلو أي عمل فلسفي من منهج أو منطق كامن يتعدد بحسب الموضوع، وقد يتداخل في ذلك جوانب ذاتية تتعلق بالإبداع والاستبطان الداخلي تكون عصية على الكشف، إلا أن القارئ الحاذق أو المؤرخ الجيد أو الفيلسوف المتمكن قادرون على معرفة وتحديد الطريقة أو المنهج المستخدم. وسبق أن ذكرت أن المنهج قد يكون ضمنيا كما تحدث كارل ياسبرز عن بعض ما استخلصه كانط بواسطة مناهج لم يشر لها، أو مصرحا به كالفقرات الأولى في افتتاح كتاب هيرقليطس، وتتعدد المناهج ما بين ما يتعلق بالاكتشاف والتعلم ومن ذلك الحدس والتحليل الرياضي الذي يبرز الممكنات والافتراض، وبين ما يتعلق بطرق الاستدلال ومن ذلك آليات البرهان وطرائق الإقناع ومناهج إيصال ذلك. كما تختلف المناهج بين ما هو لصيق بالتجربة الذاتية للتفلسف، وبين ما يمكن اعتباره إطارا جديدا للرؤية مثّل نقلة تاريخية عالجت عدد من الإشكاليات في منهج سابق. من ضمن المناهج الجدل التوليدي لسقراط، والتفكير المنعكس، وتكميم الملاحظة وتصنيفها. ومن ضمن الطرائق تحديد المصطلح ما بين تعريف معجمي أو تعريف منطقي أو التعريف الفلسفي الذي يرتبط بمقولات كالضرورة والامتناع، ومن بينها أيضاً تمييز العلاقات المنطقية بين الحجج بنوعيها التفسيري والتبريري، يكون ذلك بمعرفة صيغ الاستدلال القياسية وتطبيقها على الحجج، والتحقيق في مدى استلزام النتائج من المقدمات، ومن ضمن الطرائق مساءلة الفروض المسبقة التي دائما ما تأتي مبطنة في القضايا، والقدرة على تجريد القوانين من الحالات، وتطبيق الحالات بالمقابل على القوانين، وتصميم التجارب الذهنية التي تستند على الخيال المحض، وتكون عن طريق تركيب المحسوس على المجرد، بطريقة تجعل التجربة الذهنية ذات مساهمة في حل الإشكال، أو في توضيح مفهوم معقد للقراء ، ومن ذلك أمثولة الكهف لأفلاطون، من المناهج ذات الطبيعة السالبة البداية بالشك على طريقة الغزالي، أو البداية بإدراك حجم الجهل على طريقة سقراط. وأما عن المناهج الفلسفية الكبرى التي مثلت نقلات في التاريخ الفلسفي فلدينا المنطق الصوري لأرسطو، ثم المنطق الرياضي عند ديكارت، فالنقد المتعالي لدى كانط، ثم المنهج الديالكتيكي، فالمنهج الفينومينولوجي، فالمنهج الهرمنوطيقي، وغيرها. رينيه ديكارت