تكلمت في المقال السابق المعنون «من ضيق الأفق إلى سعة الفلسفة» في العدد وتاريخ 22 /11/ 2020 عن أهمية الفلسفة في المستقبل، وتلقيت على إثرها العديد من التعليقات المؤيدة والتعقيبات المسددة والاعتراضات التي تتطلب مني الدفاع عما أتبناه بشكل موجز يناسب مع مساحة المقال. الاعتراض الأول: أن دراسة الفلسفة ليس ذات أهمية بل ستساهم بزيادة أرقام البطالة فنحن نريد التخصصات العلمية والتقنية لتلبية حاجة سوق العمل...إلخ. واعتراض آخر يورد خبرا عن أكاديميين أستراليين تقدموا بخطاب للجهات لديهم بطلب حماية الفلسفة وخطورة تهميش الحكومات للعلوم الإنسانية، معلقاً على معاناتهم فكيف نحن المتأخرين عن هذا الركب! إن عدنا للاعتراض الأول لوجدناه طرحا يتطلب من صاحبه البرهنة والجدل والإثبات وإلا أصبح كلامه بلا معنى ومن هنا نسلم أننا بهذا الحوار نتفلسف مرتكزين على مصطلحات ومفاهيم وثيقة الصلة بالفلسفة فلم نستغنِ عنها في جدل فحضورها ملازم لكل عملية فكرية ومن الاستحالة أن نجد مناهج خالية من الفلسفة في العملية البيداغوجية، ومن المهم أيضاً استقلال مناهج تعليمية تعلم الطالب مهارات التفكير الناقد والتمرس على فهم الأنساق الفلسفية وتحفيزهم في التفكير والتفسير دون تحيزات والتحليل والتقييم والاستدلال متسلحين بالأدوات المعرفية للتفكير الصحيح ...إلخ. الحضور الفلسفي ليس هشاً ليغيب عن المشهد العلمي والاجتماعي بشكل مطلق فالعلاقة بين العلم والفلسفة علاقة دائمة ووطيدة يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز في كتابه مدخل جديد للفلسفة (إن الفلسفة حية دائماً في العلوم ولا يمكن الانفصال عنها وأردف قائلا العلم الخالص يحتاج إلى فلسفة خالصة كما قال لا تقوم للفلسفة قائمة خارج العلوم وبمعزل عنها). إن ما يعانيه المختصون في العلوم الإنسانية والفلسفة من التهميش وقلة الدعم في بعض الدول ليس دليلاً على فشل الفلسفة وإنما على انحراف في الرؤى وطغيان فكرة سوق العمل الذي يريد تفريغ الإنسان من كينونته ليصبح مجرد ترس في آلة صماء يتعطل فيها عقله ويغيب عن ذاته مما ينجم عن ذلك استلابه في نزعته للتفكير والحرية والتعقل وهذا إشكال يبعث إلى التساؤل والنقاش في الحقل الفلسفي. إن أردنا التطلع إلى مستقبل زاهر علينا أن ندرك أنه لا يمكن الفصل بين القوة العلمية والتقنية من جهة والفلسفة والعلوم الإنسانية من جهة أخرى، فكلاهما سلاحان مترادفان لا يستغني عن الآخر ولو تتبعنا سر تفوق الحضارات الغربية لوجدناها مرتكزة على قوتها العلمية والصناعية وقوتها الناعمة ومن ضمنها الفلسفة. * عضو إيوان الفلسفة