طيف التوحد من الاضطرابات الحديثة نسبياً الآخذة بالانتشار بنسبة كبيرة، حيث تضاعفت نسبة الانتشار بقفزات واسعة خلال العقود الماضية، وبرزت كمشكلة واضحة في المملكة كنقص في الخدمات التشخيصية والتأهيلية الخاصة بها. خلال مسيرتي المهنية كثيراً ما تردد إلى مسامعي جملة (أن الخدمات التأهيلية والتشخيصية المقدمة في أميركا وبريطانيا وأوروبا أفضل بكثير من ما هو متوفر في المملكة والوطن العربي) حيث إن هذه الجملة تصدر من بعض المختصين العاملين مع الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد أو أسرهم.. وعلى افتراض صحتها، ولأقولها بالمطلق فمن المهم تحديد مكامن القوة لديهم ووضع اليد على نقاط الضعف لدينا كوسيلة علمية دقيقة لتطوير واقع خدماتنا، فكما هو المثل الذي يقول "لا تخترع العجلة بل ابدأ من حيث انتهى الآخرون" وهنا أتمنى من الجميع أن يأخذ رأيي الشخصي التالي بصدر رحب فهو اجتهاد شخصي قد يصيب وقد يخطئ. بداية لابد لنا من أخذ العوامل التالية بعين الاعتبار ما يلي: أولاً/ فارق العمر بين الدول الفارق الزمني في عمر الدول أسهم بشكل كبير في تطور الأنظمة وعدد السكان ونوعية التعليم، ونحن في وضعنا الحالي ندرك جيداً أن العالم الغربي لا يسبقنا علماً بل يسبقنا بخبراته العملية المتراكمة على مدار العقود. فمثلاً في عام 1989م، تم نشر النسخة الأولية من مقياس ADOS لتشخيص اضطراب طيف التوحد، بينما كنا في العام نفسه، نقوم بتأسيس البنى التحتية للمستشفيات الرئيسة في المملكة ولم تكن لدينا أقسام جامعية تدرس هذه المواد أو أقسام صحية في المستشفيات تهتم بهذه الفئة، في حين أن كليات العلاج الوظيفي ابتدأت في العالم الغربي في مطلع القرن العشرين بينما لم يتم البدء في تخريج اختصاصيين للعلاج الوظيفي في المملكة إلا عام 2013م. قد يقبل هذا الكلام إذا أخذنا عدد السكان وعدد المؤسسات التعليمية بعين الاعتبار، حيث كما أسلفنا أن تنوع عدد السكان وعدد الجامعات في الولاياتالمتحدة الأميركية أو المملكة المتحدة يتجاوز ما لدينا من أعداد، مما يعني فرقاً في أعداد الخريجين وتنوعهم. مما يسهم في تعزيز النقص أو العجز في أنواع الخريجين في التخصصات التأهيلية وأماكن عملهم حسب الثقافة السائدة، فإما أن تكون الوظيفة بالمستشفيات أو القطاع الحكومي أو البقاء في شبكة البطالة، حيث يعزف الكثير من الخريجين عن العمل في القطاع الخاص. ثانياً/ التكلفة المالية لا يخفى على أحد الاختلاف الكبير في نوعية الخدمات المقدمة بين الدول أو حتى بين مناطقها، ففي الولاياتالمتحدة خدمات متنوعة جداً حسب الولايات، ففي بعض الولايات مستوى الخدمات متدنٍ جداً، ويفتقد لأبسط أساليب التدخل المبكر وبعضها الآخر لديها مستوى عالٍ جدا من الخدمات. وهو قد ما يتشابه مع وضعنا في المملكة، حيث إن الجزء الكبير من الخدمات يتوفر في مناطق محددة بينما لا يتوفر شيء في مناطق أخرى. وتعتمد الخدمات في الولاياتالمتحدة الأميركية تحديداً بشكل رئيس على التأمين الطبي، فإذا كان لديك تأمين طبي ممتاز أو قدرة مالية عالية تستطيع الحصول على أفضل الخدمات وأفضل المختصين.. أما لدينا فللأسف فشركات التأمين لا تغطي أكثر من 50 ألف ريال بالسنة الواحدة، ولا يخفى على أحد أن هذا المبلغ المحدود لا يغطي إلا جزءاً يسيراً من الخدمات الأساسية المطلوبة للطفل. ثالثاً/ البحث العلمي في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وأوروبا تقوم الجمعيات الخيرية والمؤسسات غير الربحية بتوفير ميزانيات ضخمة تصل إلى مئات الملايين لدعم الأبحاث والعلماء، إيماناً وتقديراً منهم لأهمية الأبحاث وأهمية العمل البحثي كفريق متكامل حيث إن جميع أدوات التقييم والتشخيص وبرامج التدخل برزت كنتاج بحثي لهذا المجهود وهو ما نفتقر إليه هنا سواء من إيماننا بأهمية الأبحاث أو دعم القطاع الخاص للجهود البحثية. رابعاً/ الحاجز اللغوي الأسر في العالم الغربي لديها من مصادر المعلومات العدد الكبير والذي يشتمل على الكتب والمراجع الحديثة، مما يسهم في زيادة ثقافتها وتعديل أساليبها بما يتناسب مع أطفالهم، وأضف إلى ذلك قدرتهم على مراقبة أداء المختص الذي يعمل مع أبنائهم. أما لدينا، فنحن نعاني من شح في مصادر المعلومات الحديثة المتوفرة باللغة العربية والتي تستهدف الأهالي والمختصين مما يسهم في عدم قدرتهم على مواكبة المعلومات المحدثة وعدم قدرة الأسر على مراقبة أداء المختص. وهذا هو نتاج لاعتمادنا على الأبحاث الغربية وضعف حركة الترجمة والتقنين لدينا حيث إن أغلب المراجع المترجمة والمتوفرة على محدوديتها مراجع قديمة نوعاً ما. ولا يخفى جهود الحكومة بابتعاث عدد كبير من المختصين الرائعين للدراسة والتدريب في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وأوروبا لنقل الخبرات الميدانية لنا والذي أسهم في رفع مستوى الخدمات بشكل كبير، إلا أن هناك العديد من الاختصاصيين الشغوفين الذين لم تسمح لهم الفرصه للدراسة أو التدريب في الخارج أو يواجهون عائق اللغة الذي أثر على القدرة على استغلال قدراتهم أو تطوير شغفهم أو مواكبة أحدث الطرق بسبب الحاجز اللغوي، فعلى سبيل المثال خريجو التربية الخاصة، حيث إن دراستهم الجامعيه باللغة العربية ولسوء حظهم فإن جميع طرق التدخل والبرامج والدورات هي باللغة الإنجليزية والتي تتطلب مستوى عالياً ومحدداً من اللغة، وهذا ما يقودنا إلى نقطة البداية. خامساً/ التدريب العلمي مع مبادرة الابتعاث أكاد أجزم أننا كمبتعثين وبكل فخر قد قمنا بنقل أفضل ما لديهم إلى مراكزنا، وهناك جيل كامل من الاختصاصين والأطباء الشغوفين الذين أخذوا على عاتقهم تطوير الخدمات التشخيصية والتأهيلية المقدمة لذوي اضطراب طيف التوحد وأسرهم، ولكن الموضوع ليس بالسهولة التي نتخيلها فهو منظومة متكاملة يجب أن تمر بجميع مراحل التطور التي مر بها الغرب كما أسلفنا سابقاً. وأضف إلى ذلك، أنه وعند نقل أسلوب علاجي حديث ومحدد من الغرب، لا نستطيع تطبيقه بشكل مباشر إلا بعد ترجمته وتقنينه على بيئتنا العربية لضمان جودة المخرجات المتناسبة مع ثقافتنا، وهنا نعود إلى نقطتنا الثالثة والرابعة والتي تتعلق بالجهود البحثية، حيث يجب الحصول على حقوق الترجمة والموافقات البحثية والتي قد تستغرق فترات طويلة وما يليها من تطبيق للبحث العلمي الذي قد يستغرق سنوات من البحث والتحليل، وهو ما يحتاج إلى مجهود فردي ودعم مؤسسي لتطبيقه. سادساً/ الثقافة المجتمعية عند التطرق للثقافة المجتمعية تستحضرني العديد من النقاط والتي تؤثر على الخدمات المقدمة فعلى سبيل المثال يعتمد الغرب بحكم أنه مجتمع فردي على النهج الذي يعتمد على الفرد في تحديد برنامج العلاج وأهدافه "Client-Center approach"، أما في مجتمعاتنا فينطبق المبدأ الجماعي والذي يعتمد على الأسرة المباشرة والعائلة الممتدة والأصدقاء وغيرهم ممن يحتويهم نمط الحياة المرن للفرد مما يؤثر على اختيار طرق التدخل وتحديد الأهداف، مما يضع العراقيل أمام التطبيق المباشر للأسلوب العلاجي الغربي. ومن ذلك التنوع الثقافي والجغرافي للمملكة الذي يفضي إلى قبول أو رفض بعض البرامج العلاجية كاستخدام الموسيقى بالعلاج. كما أن هناك بعض العادات والتقاليد التي تؤثر على حصول الطفل على حقه بالتشخيص خوفاً من وصمة العار. سابعاً/ التنظيم والرقابة القوانين والأنظمة تهدف إلى تقنين الخدمات ومقدميها بهدف ضمان الجودة ونحن لا نستطيع الإنكار بأن العالم الغربي قد سبقنا بأشواط كبيرة في التنظيم وسن القوانين التي لاقت معارضة كبيرة عند تشريعها في ذلك الوقت، ولكن الآن وفي العالم الغربي والولاياتالمتحدة هناك رقابة قانونية على المختصين ورخص مزاولة المهنة والشهادات المعتمدة والتي لا يستطيعون التلاعب بها خوفاً من التبعات القانونية.. أما لدينا، فإن الرقابة القانونية محدودة جداً، مما أسهم في وجود بعض المختصين الذين قد ينسبون لأنفسهم شهادات ودورات لا يستحقونها مما يسهم في ضياع عمر الطفل وموارد الأسرة المالية بدون فائدة محققة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هنالك من يأخذ دورات في العلاج الوظيفي لمدة 40 ساعة وتقوم بعض الوزارات بمعادلتها لاختصاصي علاج وظيفي، كيف تختزل سنين الدراسة والتدريب العملي وما يزيد عليها من خبرات بأربعين ساعة فقط! أخيراً.. فإنه لا فائدة من هذا الطرح إذا لم نقم بالعمل على معالجة الخلل المفترض، وهنا أقترح استحداث لجنة أو هيئة تشريعية مستقلة تعنى بشؤون اضطراب طيف التوحد وذويهم وتقنين الخدمات المقدمة لهم من تشخيص وتأهيل ومراقبة أداء الهيئات التي تقدم الخدمات التشخيصية والتأهيلية لهم ومراقبة أداء المختصين وكذلك استحداث هيئة أو منظمة غير ربحية تعنى بمتابعة المستجدات العالمية وطرق التدخل الحديثة وتعمل على ترجمتها وتوفيرها للمجتمع بشكل مجاني على خطى منظمة التوحد يتكلم (Autism Speaks) وكذا إدراج الاختصاصات التربوية ضمن الهيئات التي تمنح رخصة مزاولة المهنة مع إيجاد قانون عقوبات رادع لكل من يتلاعب بالشهادات أو الدورات أو بالخدمات المقدمة للأسر وأطفالهم والتوصية لوزارة التعليم بمتابعة أحدث الاختصاصات التأهيلية عالمياً والعمل على توطينها والعمل على إدراج اللغة الإنجليزية في مسارات التربية الخاصة والتوحد وعلم النفس وغيرها من الاختصاصات ذات العلاقة بالإعاقة. وخلاصة لما سبق، كما قال سيدي محمد بن سلمان إن همة السعوديين مثل "جبل طويق" ولن تنكسر فإني أكاد أجزم بأن عقولنا وخبراتنا وشغفنا قد يتشابه مع الغربيين أو قد يزيد علهم، ولا ينقصنا إلا التشريعات والأنظمة والعمل الجماعي والوقت والإيمان بأنفسنا، حيث إن جميعنا نجتهد بشكل دؤوب لخدمة الأطفال والبالغين من ذي اضطراب طيف التوحد الغالين على قلوبنا وخدمة الوطن المعطاء، الذي لا يألون جهداً في تحسين نوعية الحياة لجميع المواطنين والمقيمين في وطننا العزيز ولا أجد أفضل من رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني كدليل على جهود حكومة خادم الحرمين الشريفين "حفظه الله". *اختصاصي أول علاج وظيفي أطفال اختصاصي معتمد بالتكامل الحسي