يجد المتأمل في جماليات الخط العربي دهشة كبيرة أثناء تذوقه للأعمال الرائعة وعبقرية الخطاط الفنان المسلم الذي قدّم خصوصيته وحضوره في تاريخ الفن والثقافة والفكر الإنساني. أبدع الفنان المسلم بدهشة أعلى من ذلك بإنتاج تحف فنية، وروائع خطية يمجّد بها كلام خالقه، الواحد الأحد، الذي لا يمكن منطقيا وفعليا ولا حتى تخيليا تقسيمه لعدة آلهة أو عدة أرواح. لا يقبل الفنان المسلم بذلك ولا حتى مضاعفة الإله الواحد الأحد ليكون له أندادا وأمثالا، أو أن تكون له زوجة وأولاد في عقيدته وإيمانه؛ فالخالق سبحانه جل في علاه لا يمكن تشبيهه ولا تعطيله ولا تمثيله ولا تصويره، ويتوجب تنزيهه وتقديسه عن كل شيء، فسبحان الله عمّا يصفون. تتمحور فلسفة الفنان المسلم والنقطة التي يرتكز عليها الفن الإسلامي عموما، على نبذ الشرك والكفر، ومحاربة البدع والخرافات غير المعقولة، والتي أفسدت عقائد من سبقهم. كما يمكن أن يضاف إلى ذلك أن الفنان المسلم ظل مطيعا لأوامر ربه مبتعدا عن مضاهاة خلقه، ولم يكن صانعا لأصنام وتماثيل لأفراد صالحين قام جيل من بعدهم يقدسهم ويتقرّب من خلالهم لله، فهو قريب يسمع دعوة الداعي إذا دعاه، ويرفض وجود من يكون وسيطا بينه وبين عباده. تلك العقيدة صنعت تحديا كبيرا للفنان المسلم ولإبداعه، ما جعله يفكّر بطريقة مختلفة وإبداعية، ليبتكر أشكالا وأساليب للفن تجعله متميزا على نظرائه من الحضارات المجاورة من ناحية، وتجعله في رضا من خالقه من ناحية أخرى؛ لذلك جرّد الطبيعة عن واقعها حينما نظر إليها من زاويته الخاصة، واستعمل الخط العربي بأسلوب فني مبتكر يعكس رؤيته وفلسفته التي تؤمن بأن الكلمة العربية لها صوت ومعنى مرئي أيضاً. فاستخدم الحروف والكلام بطريقة تشكيلية مبهرة رتّب فيها العناصر والمفردات اللفظية بطريقة زمانية ومكانية، ليجعل لوحته تمتلئ بالحركة ومفعمة بالحيوية، عندما فعّل ووظّف عضوية الحرف العربي وليونته، وقدرته التشكيلية في المط والشد والاستدارة والانبساط والصعود والهبوط ويستثمر طاقة الخطوط اللينة واليابسة. برويّة واعتدال يتفنن الفنان المسلم ببراعة في تفجير قدرات الخط العربي في المرونة وانسيابية الحركة، فقد أبهر المشاهد بإمكانات الخط العربي الجمالية «الاستاطيقية» عندما أنتج مئات الممارسات الفنية. يقول د. إسماعيل الفاروقي: «هنا يكمن سر نجاح فن الخط العربي حيث استطاع أن يتغلب تماما على الفكرة المنطقية في العمل الفني، لتصبح تابعة ومكملة للتصوير الجمالي، فكان بحق أعظم وأثبت انتصار للفنان». التصميم والتجريد في فن الخط العربي سبق الفنان المسلم الفن الغربي المعاصر بقرون كثيرة عندما ابتعد عن المحاكاة والمضاهاة والتشخيص امتثالا لأوامر الدين، كما أنه يعتبر فنانا متأملا متفكّرا في خلق الله وملكوته وآيات وجوده، لذا نظر إلى الطبيعة والبيئة وعبّر عنها بشكل مختلف، ورأى في اللغة العربية قوىً تعبيرية عظيمة وفي حروفها حيوية وعضوية بهرته وجعلته يستلهمها لتجريد أفكاره والطبيعة بكل عناصرها ومن أهمها الإنسان ذاته؛ فقد نسّق الخطاط المسلم بناء حروفه وفق أوزان ونسب جمالية تنسجم مع جسم الإنسان وحركاته. وقد وضع ابن مقلة (شيخ الخطاطين العرب) نسبا يوضح طول حرف الألف والحروف الرأسية بسبع نقاط طولية، معتمدا على النقطة المعيّنة التي تنتج من نفس عرض قلم الكتابة بميلها الذي يتماشى مع نوع الخط وطبيعة يد الكاتب، وكأنها رأس في جسد الإنسان، معتبرها وحدة قياس رئيسة، تبني الحروف وتنسّق فراغ الكلمات الداخلي والخارجي، وبتكرار النقطة سبع مرات طوليا كأنها ارتفاع جسم الإنسان الطبيعي المتناسق الفطري، وبدأ يقيس الحروف الأفقية على انبساط الإنسان وحركته في ركوعه وسجوده. والشكل التالي يوضح مقاييس الخط ونسبه الفاضلة التي بدأها ابن مقلة وتلامذته مثل ياقوت المستعصمي وابن البواب وغيرهم، وتطورت هذه القواعد والمعايير والنسب والمقاييس عبر أجيال من الخطاطين، حتى وصلتنا كتراث فني غني للخطاطين الكلاسيكيين لأكثر من ثمانين نوعا للخط والكتابة العربية، واستمر في تطويرها الخطاطون والقرافيكيون المعاصرون حاليا في برامج الكمبيوتر كعلم رسم بناء الحروف وفن تشكيلها والمسميان بالتايبوقرافي والكاليقرافي. ظهرت لنا بعض المخطوطات في التراث الفني الإسلامي وجود أعمال فنية رائعة، استلهم منها فنانون عالميون وتأثروا بها كثيرا، وانعكس ذلك بالتالي على إنتاجهم الفني، مثل أعمال الفنان الهولندي بت موندريان منظّر ورائد الفن التجريدي الهندسي، والفنان الفرنسي البلغاري الأصل فكتور فازريلي رائد فن الخداع البصري. والأشكال التالية تبين مدى تأثير فن الخط العربي على اتجاهات الفنون الحديثة والمعاصرة وعلى فلسفتها ورؤاها الفنية وأعمال روادها. ختاما، هناك ضرورة لتوضيح بعض الضوابط أو الجوانب الدينية والسلوكية والأخلاقية، التي كانت تحكم ممارسة الفنان المسلم، والتي قدّم لنا الخطاط المسلم في ضوئها تلك الروائع الخطية الفنية ذات الطابع التشكيلي الجمالي بعبقرية، هي تجربة فنية تستحق الثناء والإشادة، وتقديمها للعامة وتثقيف الجيل الجديد بعظمة الفن والتراث الإسلامي، الذي ظل لقرون عديدة يقدّم نفائس في الفكر الإنساني والمعرفي والفني، نجد تلك الروائع والكنوز في أهم متاحف العالم، وتأثر بها فنانون وطلاب وهواة فنون لا حصر لهم، وما زال الفن الإسلامي منجما ومنبعا وكنزا للاستلهام والدراسة والبحث والتطوير. * أكاديمي وفنان تشكيلي د. عصام عبدالله العسيري* أعمال الفنان الهولندي بت موندريان سورة الإخلاص بالخط الكوفي المربع