قال إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ د. سعود بن إبراهيم الشريم، لقد وفد إليكم شهر رمضان المبارك كعادته في إبانه لم يتخلف، وموضع زمانه لم يتوان، لقد أتاكم الضيف على صورته، غير أن حال مستقبليه غير حالهم من قبل، لقد وفد إليهم في ثنايا جائحة جاثمة، كدرت صفوهم، وأذكت فرقهم، وأقلت فوقهم غياية حزن وقلق، أخذت بأفئدتهم كل مأخذ حتى أضحوا كأن على رؤسهم الطير، لقد وفد إليهم هذا الشهر المبارك على حال لم يعهدها كبيرهم، ولم يسمع بها صغيرهم، جائحة حالت بينهم وبين ما عهدوه في عباداتهم وأعمالهم واقتصادهم وحلهم وترحالهم، لقد وفد إليهم شهرهم هذا في زمن هم أحوج ما يكونون فيه إلى كفكفة دموعهم، ولمّ شعثهم واستجماع قوتهم، وفتح ما انغلق، ورفع ما سقط، وجمع ما تفرق، ووصل ما انقطع، مشرئبين إلى وفود شهرهم على أحر من الجمر ليجعلوا منه شهر ذكر وعبادة وصدقة وقراءة وإنابة، ملحين في دعائهم لربهم أن يعجل لهم بكشف هذه الغمة، وأن يخلفهم فيما فقدوه خيرا، ويجعل ما أصابهم طهورا لهم ورفعة في درجاتهم، وعظة لهم وذكرى، فيما يستقدمون من دنياهم وما يستأخرون، وما يأخذون منها وما يذرون، مستلهمين حال أمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، ليظفروا إثرها بالبشرى، والصلاة من الله عليهم، وبرحمته وهدايته لهم (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). وأضاف في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام: إننا لنحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه أن لم يجعل ما حل مصيبة في ديننا؛ إذ كل المصائب قد يرجى تحملها إلا المصيبة في الدين، كيف لا وقد جاء في الحديث أنه كان من دعاء النبي قوله: "ولا تجعل مصيبتي في ديني"، ونحمد الله أن لم يجعلها جائحة في ديننا وعباداتنا وأخلاقنا، وأما المال فإنه غاد ورائح، والله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وأما الصحة فذات فتح وذات إغلاق ويعتري الإنسان ما يعتريه من عوارض صحية، ومن عاش لم يخل من مصيبة، وقل أن ينفك عن عجيبة، ولكل ما يؤذي وإن قل ألم، فما أطول الليل على من لم ينم، وقد قال النَّبيِّ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشوْكة يشاكُها إِلا كفر اللّه بهَا مِنْ خطَايَاه". وبين د. سعود الشريم أن تلكم الجائحة التي حلت بعالمنا اليوم لا تحسبوها شرا محضا، بل إن لنا في طياتها لدروسا وعبرا ما كنا لنتعلمها قبل ذلكم، مع إيماننا بمولانا أنه قد أعطانا كثيرا وأخذ منا قليلا، وإن مما علمتنا إياه تلكم الجائحة أثر الوعي في سلامة المجتمعات، فإننا متى جعلنا الوعي ذا بال في تصرفاتنا فلن نخفِقَ بإذن الله في التعامل مع النوازل والخطوب، فبالوعي يعرِفُ أحدنا متى يرفعُ بصرَه ومتى يُرخِيه، ويعرِفُ مصلحةَ دفعه الأخطار قبل وقوعها، وأنها أعلى وأَولَى من رفعها بعد وقوعها، فمن وفق في وعيه وفق في حذره، فأحسن قراءة ما بين سطور الأزمات، ومن ثم نجح في إدارتها، وخرج منها بأقل الجراح والخسائر، فإن الوعيَ والحذَر أمران زائِدان على مُجرَّد السمع والإبصار، فما كلُّ من يُبصِر يعِي ويحذَرُ ما يُبصِرُه، ولا كلُّ من يسمَعُ كذلكم.