تحت غيمة أرخت ظِلالها وجوف لُجّة عميقة تتضارب أمواجها وبين جم غفير من الاقتراحات، تشابهت عليّ المحتويات وتقلصت الخيارات فلمع في الذهن برق وتحليلات، وذلك كان أثناء حاجتي لتعلم اللغة الإنجليزية بكثافة أكبر حيث لجأتُ إلى الاستعانة بالدروس المنشورة من ناطقي اللغة نفسها وتحديدًا من الولاياتالمتحدة، لاحظت كثيرًا أن لحظات الصمت بين الكلمات تكون معدومة حتى توهمت أنّ الكلمات متشابكة مما شكّل لي صعوبة في التعلم، واضطرني للبحث في الموضوع من باب الفضول. وبالبحث وجدتُ أنّ الدراسات تشير إلى أننا لا نترك في المعتاد سوى جزء من الثانية بين الكلمة والأُخرى وبالخوض في العمق وجدتُ أنّ الشعب الأميركي على وجه الخصوص يشعر بالقلق والارتباك حيال فترات الصمت الطويلة أثناء الحديث أكثر من غيرهم، وقد قال أستاذ التواصل بجامعة ماساتشوستس أمهيرست (دونال كاربو): إنّ انزعاج الشعب الأميركي من هذا ربما يكن له أصل تاريخي، حيث فسّر الأمر بأنّ أميركا كانت عبارة عن مجموعة من المستعمرات الأوروبية، فكانت ملتقى لمختلف الأجناس والأعراق، وبطبيعة الحال يصعب بينهم التفاهم ولأسباب وجيهة يحدث انفعالات مثيرة تجعل الكلام يتسارع ولحظات الصمت تنعدم. ولا يخفى على لبيب أنّ سرعة الكلام وكثرته تجعلنا تحت ضغط الفهم والرد بشكل فوري مما يجعلنا أحيانًا أن نقول ما لا نعنيه أو نرد قبل الفهم الكامل لما هو على المحك، وعلى النقيض، إنّ التأني في الكلام واعتناق الصمت يُتيح لنا الفهم والرد بكلام مبني على معرفة وقناعة فالصمت قد يكون حالة من الاستغراق في التفكير أو حالة من السكون الظاهري يمنحك الفرصة لمراقبة الوضع والتفكير والإنصات إلى العالم من حولك كما يُعرّفه "كاربو" وليس كما يُظن بأنه لا يحدث إلا في غياب الفكر وانقطاع الصوت. وبالاستناد على ما كتبت أعلاه فإنّ في الصمت خلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، وفيه هضم للنفس وحسن أدب وإتمام للعقل كما قيل قديمًا "إذا تم العقل نقص الكلام" وَ "رأيت الكلام يزين الفتى**والصمت خيرًا لمن قد صمت" غير أنّ العلم للاستماع والإنصات يُعزى، فالعلم أوله الصمت وثانيه الاستماع، وتُجمع أغلب الثقافات على مدى احترامها للصمت ولا سيما الثقافة اليابانية فالمثل الياباني (إنّ خير من تنصت إليه هو الرجل الصامت) يؤكد ذلك، حتى أن فيها مفهوم يُسمى "هاراجي" والذي يعني حرفيا "حديث البطون"، ويشير إلى أن أفضل طريقة للتواصل هي الامتناع عن الكلام. وقد تمسكت "كاتي دونوفان" مؤسسة شركة "إيكوال باي نيغوشييشن" للاستشارات في مجال الحصول على رواتب متساوية، بمبدأ "من يتكلم أولا هو الخاسر"، ففي بداية حياتها المهنية، حضرت مقابلة لشغل وظيفة في مجال المبيعات، وحصلت على الوظيفة على الفور، وعندما عرض عليها الموظف الذي أجرى معها المقابلة راتبًا، قالت له إنها سترد عليه الأسبوع المقبل، ثم لاذت بالصمت، فرفع الموظف الراتب المعروض، ثم أعادت الكرّة، حتى عرض للمرة الثالثة راتبًا أعلى بنسبة 20 % من الراتب الأول، وهنا قبلت العرض. فعلى حسب المقام ومقتضى الحال يكون الصمت أو الكلام، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رحم الله امرأً تكلم فغنم أو سكت فسلم)، فإن كان في الكلام راحة ففي الصمت فضيلة، وإن كان في الكلام فصل خطاب فإنّ في ترك الجواب جواب، فلكل مقام مقال، ولكل حالة لُبوسها والصمت فن من فنون الكلام كما قال وليم هنريت، فلا تصفق لمن يتحدث أكثر، وانشر فضيلة الصمت بشكل أكبر.