كثيرةٌ هي الإعلانات والمعاهدات والمواثيق والعهود وكثيرة هي المؤتمرات والندوات والاتفاقيات التي ظهرت وعُقدت وأُبرمت سواءٌ أكانت مكتسبة الدلالة أو ذات استئناس واسترشاد, وذلك من أجل الإنسان أيًا كان ذلك الإنسان للنهوض به وحفظ حقوقه كوثيقة (الماجنا كارتا Magna Carta) وذلك في العام 1215م مرورًا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م, وما انبثق عنه من العهدين الدوليين، وذلك ما يُعرَف بالشرعة الدولية, إلا أنَّ وثيقةَ مكةالمكرمة لها مكانتها وميزتها ودلالتها ومضمونها, فمكانُ الوثيقةِ مكةالمكرمة, مهبط الوحي, مقصد المسلمين ووجهتهم وقبلتهم, مأوى أفئدتهم, زمانها العشر الأواخر من رمضان من عام 1440ه, وممضوها كبار علماء الأمة الإسلامية، وكبار مفتيها على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم. فوثيقة مكةالمكرمة صدى لوثيقة المدينةالمنورة والتي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا مع المكونات المختلفة في أديانها وثقافاتها وأعراقها في المدينةالمنورة, حيثُ كانت وثيقة دستورية تُحتذى في إرساء التعايش. فوثيقة مكةالمكرمة تستمدُ ضياءها ووهجها من تلك الوثيقة الخالدة, ولمَ لا وموقّعها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. ووثيقة مكةالمكرمة ترنو فيما ترنو إليه إلى بناءِ جسور المحبة والوئام الإنساني والتصدي لممارسات الظلم والصدام الحضاري وسلبيات الكراهية. وقد جاءت هذه الوثيقة في سبعة عشر مبدأً وأساساً معلنةً أن البشر على اختلاف مكوناتهم ينتمون إلى أصلٍ واحد, متساوون في إنسانيتهم، نابذةً العبارات والشعارات العنصرية, منددةً بدعاوى الاستعلاء البغيضة، مؤكدةً أن اختلاف الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطباعهم وطرائق تفكيرهم قدرٌ إلهي قضت به حكمة الله البالغة, مشيرةً إلى أن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية، وأن ذلك التنوع سبيلٌ للحوار والتفاهم مُحفّزًا على التنافس لخدمة الإنسان وإسعاده. حيث جاءت الوثيقة موضحةً أن أصلَ الأديان السماوية الإيمان بالله, وأظهرت الوثيقة أن التآزر لوقف تدمير الإنسان والعمران والتعاون جسرٌ من جسور التآخي الإنساني وألزمت سنَّ التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري, وأنَّ واجبَ الجميع مكافحة آفة الإرهاب والظلم والقهر, مشددةً على أن انتهاك حقوق الإنسان مُجرّمٌ يُعاقب عليه فاعله, «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا», وأشارت إلى ترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة وتشجيع الممارسات الاجتماعية السامية, وأن التعاون في التصدي للتحديات الأخلاقية والبيئية والأسرية وفق المفاهيم الإسلامية والإنسانية المشتركة أمرٌ حتمي مُلزِمٌ على الجميع. هذه وثيقة مكةالمكرمة, وهذه مبادئها وأسسها, قد أُمضيت هذه الوثيقة لتحيي نبضَ الأمة وتؤكد المؤكَّد وتثبت الثابت, وتُنبئ عن الحاجة لاسيما في زمنٍ يحتاجُ فيه الجميع إلى التعايش ونبذ الخلاف ونشر السلام والعدل والمساواة بين الناس كافة, حيثُ أصبح العالم كل العالم يعيشُ لحظةَ الآخر, ينظرُ إليه, يحاوره, يسامره في لمحِ البصر, وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي رابطًا بين بني البشر, وعلى الكل أن يأخذ من الكل, ليستفيد الجميع من الجميع, فالبشر أمةٌ واحدة, -ووثيقة مكة- نبضُ حقوقهم وأملهم, فالكلُ يبتغي التعايش في وئام وسلام ومحبة وإخاء, إذ بُني الإسلام على التآخي والتآزر. فقد انطلقت وثيقة مكةالمكرمة من رحاب البيت الحرام, ومن أفياء الكعبة المشرفة ومن قبل كبار علماء الأمة الإسلامية وفي طليعتهم كبار مفتيها, فلتكن وثيقة مكة نبراساً يُحتذى حيثُ ألمحت إلى عقد حلفٍ عالمي فاعل يتجاوز النظريات والشعارات المجردة وذلك لإصلاح الخلل الحضاري الذي سببه الإرهاب, وأصبح حجرَ عثرة أمام التقدم والنهوض وتحقيق النفع للإنسانية, فوثيقة مكة نبضٌ لحقوق الإنسان التي يدعو لها العقلاء الناشدون للبناء والإصلاح.