العمل على استعادة دور المسجد كمحرك للإبداع لا الاكتفاء به كمكان للعبادة، وتقديمه كرابط بين الناس والشعوب لا كمكان مغلق الأبواب.. المسجد كما أنه مكان للاختلاء بالنفس هو كذلك مكان للتعرف على الناس وبناء أواصر وعلاقات معهم.. سؤال طرحته على مجموعة من المثقفين من دول غربية قبل عدة أسابيع يدور حول المسجد وعمارته، وكيف أن هذا المبنى البسيط في وظائفه وعناصره المعمارية استطاع اختراق ثقافات العالم حتى تلك الأكثر محلية منها، إحدى الإجابات التي ذكرها أحدهم أعادتنا لقول المعماري الألماني/ الأميركي "ميس فان دوره" التي قال فيها: "إن الأقل هو الأكثر" وأكد الزميل أن المسجد يحمل برنامجاً بسيطاً وواضحاً لذلك يحمل البذرة التي تخوله أن يخترق ثقافات الشعوب ويتناغم مع عمارتهم وأسلوب حياتهم، لكنني أرى الموضوع أوسع من ذلك، وأعتقد أن هذه البذرة ليست مقتصرة على المسجد ووظائفه الواضحة بل مرتبط بالثقافة التي تحتضن هذا المبنى وتغذي المعاني الخاصة المرتبطة به وأقصد هنا "الإسلام"؛ الدين والثقافة وأسلوب الحياة. في الثلاثة أيام الأخيرة اجتمعت لجنة التحكيم الدولية لجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد لتختار القائمة القصيرة للمشروعات المرشحة للفوز بالجائزة من بين أكثر من مئتي مسجد تم ترشيحها من كافة أنحاء العالم الإسلامي، لجنة التحكيم مكونة من معماريين وفنان تشكيلي وناقدة أدبية ومتخصص في الأنثربولوجيا، وأعضاؤها أتوا من السعودية ومن روسيا وإسبانيا ومصر والأردن ومالي، ومن الواضح أن تكوين اللجنة المعرفي وحتى الجغرافي يشير إلى الامتدادات التاريخية التي وصلت لها عمارة المسجد والبعد الثقافي لهذا المبنى الذي أثر على مخيلة الناس وأسلوب حياتهم، وأوجد خيطاً متيناً يربط بينهم على امتداد العالم القديم، اجتماع اللجنة كان في مقر الاتحاد الدولي للمعماريين ويقع في أعلى مبنى في مدينة باريس ويطل مباشرة على "برج إيفل". جائزة الفوزان للمساجد تقدم نفسها كمؤسسة سعودية / عالمية تحتضن الأفكار الجديدة التي تحاول أن تحدد مفهوم "مسجد المستقبل" البسيط والعالي التقنية. الذي يخدم كل فئات المجتمع، الأصحاء والمعوقين، ويساهم في الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. الجائزة تعتبر عمارة المسجد مولدة للإبداع والأفكار الجديدة على المستوى الحضري والمعماري الجمالي والتقني والاجتماعي والاقتصادي العالمي وتثير قضية الاستدامة المالية لأكثر من 3,6 ملايين مسجد على مستوى العالم كقضية مستقبلية مهمة يجب التفكير فيها من الآن. ومع ذلك تؤكد على قدرة المسجد وعمارته على اختراق الثقافات المحلية المعاصرة والمستقبلية، وأن هذا الاختراق يحدث عفوياً من خلال المجتمع المحلي نفسه وهو ما يجعل المسجد أحد العناصر المعمارية والثقافية الرابطة للشعوب على مستوى العالم. ردود فعل المحكمين تراوحت بين المفاجأة والحماسة، المفاجأة من التنوع المذهل في عمارة المسجد الممتدة من إندونيسيا إلى امتداد الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي في شمال وغرب أفريقيا، والحماسة للقدرة الكبيرة للمسجد وعمارته للاندماج مع الثقافات والجغرافيات المحلية مع البقاء كعنصر متقارب في هويته ورسالته البصرية على امتداد الشرق والغرب. لجنة التحكيم توقفت كثيراً عند مولدات الإلهام والإبداع التي يصنعها المسجد دون أن يخسر ماهيته وصورته مع قدرته التاريخية السابقة على التأثير في كل عناصر العمارة الأخرى. اعتبار هذه المولدات للإلهام والإبداع المعماري والتقني من قبل لجنة التحكيم أمراً يخص المسجد وحده كمبنى ديني واجتماعي يجمع الناس بشكل يومي غير متكرر في ثقافات الشعوب الأخرى يفتح آفاقاً جديدة لما يمكن أن أسميه الدراسات العمرانية للمسجد" التي تتقاطع فيها عدة حقول معرفية وهي مهملة بشكل كامل في الوقت الراهن. الهدف الكبير الذي تسعى له جائزة عبداللطيف الفوزان هو استعادة دور المسجد كمحرك للإبداع لا الاكتفاء به كمكان لأداء العبادة. تقديم المسجد كرابط بين الناس والشعوب لا كمكان مغلق الأبواب. المسجد كما أنه أحياناً مكان للاختلاء بالنفس هو كذلك مكان للتعرف على الناس وبناء أواصر وعلاقات معهم، في الاجتماع القادم والأخير للجنة التحكيم في كوالالمبور في ماليزيا في نوفمبر القادم سيتم اختيار الفائزين بالجائزة وسيكون ذلك مصاحباً للمؤتمر العالمي الثاني للمساجد لكن سيتم الاحتفاء بالفائزين - بإذن الله - في عاصمة بلاد الحرمين، بالرياض في شهر مارس 2020م.