سياسة قطر الخارجية بسيطة لدرجة يمكن للجميع توقعها وتخمينها.. سياسة مكررة تعتمد على أسلوب "خالف تعرف" وإثارة حفيظة الشعوب من خلال قناة الجزيرة.. سياسة تنبع من عقدة الحجم وضعف التأثير وكان يصفها وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم (بسياسة التغريد خارج السرب).. ليس لها هدف سوى إثبات التواجد والوجود والظهور بحجم أكبر من الحقيقة.. ورغم أن هذا الأسلوب ينجح مبدئيا في لفت الانتباه، إلا أنه يطعن في مصداقية وجدية من يكرره لثاني وثالث مرة.. والمتأمل لسياسة قطر الخارجية يكتشف أنها كررت هذا الأسلوب بطريقة لا تخدم مصالحها ولا مصالح أمتها.. فقد كررت سياسة (خالف تعرف) منذ عام 1991 حين خالفت الإجماع العربي بشأن غزو الكويت من قبل صدام حسين.. ثم وقفت ضد الكويت نفسها (من خلال قناة الجزيرة) وصورتها كدولة شقت الصف العربي بدعوتها للقوات الأميركية لمنطقة الخليج (في حين أنها من منح تلك القوات قاعدة العديد).. أما موقفها من السعودية فكان يتضمن الكثير من سياسات التحريض والمبالغات الإعلامية مثل الحديث عن مظاهرات في الشرقية أو انفجارات ضخمة في الرياض (وأذكر تحديدا ظهور هذا الادعاء بعد انفجار قنبلة بدائية وضعت في برميل زبالة في مكتبة جرير).. أما مع البحرين فكانت سياسة العداء أكثر صراحة وقسوة وتضمنت المطالبة ببعض الجزر البحرينية ودعم مجموعات معارضة تختلق الفتن داخلها وتتلقى دعما مباشرا من إيران.. وذات السياسة اعتمدتها قطر أثناء أزمة غزة عام 2007 حين وقفت وحيدة مع حماس وساهمت في شق الصف الفلسطيني.. وتمادت سياستها في هذا الجانب لدرجة إقامة علاقات استراتيجية مع إسرائيل واستقبال رئيسها في الدوحة بطريقة مؤذية لمشاعر الفلسطينيين.. أما في لبنان فكانت الوحيدة التي وقفت بجانب حزب الله وساهمت مع إيران في تعملقه وسيطرته على بيروت.. وبدل أن تستغل علاقتها الجيدة مع إيران لمنع دخول الحزب لسورية دعمت وجوده هناك وادعت أنه يدافع عن الأقلية العلوية المضطهدة (رغم سيطرة العلويين أصلا على الجيش السوري وانحدار عائلة الأسد منهم).. أما في مصر.. وبعد عزل تنظيم الإخوان، فكانت قطر (ومازالت) الوحيدة التي وقفت في صفهم وعملت من خلال قناة الجزيرة على نشر مقاطع جوال وفيديوهات قديمة ادعت أنها مظاهرات تطالب بعودة الإخوان لسدة الحكم.. وحتى حين أصبح واضحا أن إيران تملك سياسة استعمارية طويلة المدى ضد دول الخليج.. وحتى حين صرح رئيس الحرس الجمهوري الإيراني بأن أربع عواصم عربية أصبحت تحت جزمته؛ كان موقف قطر يعتمد على مد ما دعته جسور التواصل والتفاهم مع دولة كبيرة لا يخفى نفوذها في المنطقة (حسب تعبيرها)!! .. كل هذه المواقف تجعلنا نستنتج خروج قطر على الإجماع العربي والإسلامي الأخير في الرياض (خصوصا فيما يتعلق بالتمدد الإيراني ومحاربة الإرهاب بشقيه الفكري والإعلامي).. وكان هذا الموقف بالذات هو القشة التي قصمت ظهر البعير وأكد لدول الخليج عدم جدوى سياسة الأخوة والمهادنة التي تنتهجها دائما مع حكومة قطر. وللأمانة لم تكن هذه حال قطر قبل انقلاب الأمير السابق حمد بن خليفة على والده عام 1995.. لم تكن بهذه العلنية والوضوح قبل شرائها لقناة الجزيرة ونقلها للدوحة عام 1996.. فانقلاب عام 1995 لم يكن فقط انقلابا على مواثيق الأسرة الحاكمة في قطر؛ بل وانقلابا على الإجماع الخليجي والعربي ذاته (بدليل منهجية التغريد خارج السرب التي ابتكرها وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم الذي يعد صديقا مقربا ورفيق عمر أمير قطر السابق الشيخ حمد آل ثاني).. وهذا الانقلاب الداخلي ترافق مع انتقال قناة الجزيرة من لندن واستقرارها في الدوحة بعد تغيير اسمها عام 1996. .. فقناة الجزيرة ظهرت لأول مرة في لندن ضمن شبكة قنوات كثيرة كانت تدعى أوربيت (وكنت مشتركا فيها شخصيا).. كانت الوجه المعرب لقناة البي بي سي البريطانية، واستقطبت فور ظهورها عددا كبيرا من الإعلاميين العرب واللاجئين السياسيين في لندن.. أظهرت بسرعة وجهها القبيح تجاه السعودية ودول الخليج وكانت تدعوهم دول التخلف العربي.. وكان تماديها في الشتيمة والإسفاف سببا في إحراج قناة البي بي سي الأصلية وتخلي ملاك الشبكة الخليجيين عنها نهائيا.. وهكذا تم إغلاق هذه القناة نهائيا (وكادت أن تموت في مهدها) لولا مبادرة الحكومة القطرية بشرائها كاملة ونقل كافة أجهزتها وموظفيها وإعلامييها إلى الدوحة.. لم يتغير منها سوى اسمها في حين استمرت نفس الوجوه والبرامج المشؤومة التي تظهر من لندن، تظهر من الدوحة.. وبطبيعة الحال لا أحتاج لتذكيركم بمواقف الجزيرة ضد الكويتوالبحرين والسعودية ومصر والأردن والسلطة والفلسطينية.. لا تحتاجون لتذكيركم بتطابق مواقفها مع سياسة المخالفة والتغريد خارج السرب التي تنتهجها إمارة قطر.. لا تحتاجون لمن يذكركم بسخرية قناة الجزيرة الدائمة من المواقف الخليجية، والإشادة في المقابل بمهارة الدوحة في احتواء أزماتها المستمرة مع أشقائها الخليجيين.. ولكن ما يبدو لي أن صبر الأشقاء قد نفد، وزمن المجاملات (وحب الخشوم) قد انتهى. وإجراءات المقاطعة الأخيرة ستكشف للدوحة أن مهاراتها المزعومة -في احتواء الأزمات- كان في الأصل كرما وسعة بال من أشقاء نفد صبرهم أخيرا..