مطرنا بفضل الله ورحمته، عم هذه الأيام المطر ولله الحمد جميع أرجاء البلاد، وما من قادم من جهة إلا ويذكر أنها مطرت، ومن هذا الخير تلاحظ البشر والفرحة. إن رائحة الطين بعد المطر تثير الكثير من الذكريات، فهي مرتبطة بالبرد والشتاء والكثير مما يتعلق بها، وتعيدنا إلى سنين مضت، تنقلنا تلك الذكريات حيث الطرقات الضيقة في القرية المجتمعة على بعضها والدور المتجاورة والأصوات بين الناس في طمأنة لبعضهم (عسى ما خلاف ولا مخالف) خوفا من تسرب المياه (الواكف) أو سقوط شيء من الجدران والسقوف. إن رائحة الطين وقت المطر ليست مثيرة في حد ذاتها وعند من لم يكن له معها ذكرى لأنها مرتبطة بظروف كثيرة أولها البساطة المتناهية الرقيقة الحانية التي ترافق طش المطر وقطراته، وترافق نداءات الجيران وتصريف ما يخرج من الدور من سيول وما يجري في الطريق، فيظهر العديد من الرجال وعلى رؤوسهم ما يقي من رذاذ المطر كالخيشة وهي الكيسة الفارغة ذات اللون الترابي، وفي أيديهم المساحي (جمع مسحاة) يزيلون ما يعيق جريان ماء المطر لينصرف خارج القرية متبعاً منحدرات الطريق أو متجها ناحية حفرة السيل التي عملت لهذا الغرض، وهي حفر كثيرة توضع في أحياء وجوانب القرى تستقبل السيل لأغراض عدة، كما توضع في بعض المزارع حفر أيضا تستقبل بعض السيل الزائد كمجمع يستفاد منه، وأيضا لتخفيف تلك الزيادة منه حتى لا تضر أو تتسبب الهدم والانجراف للمنشآت. نشوة الفرح بملاحظة الواكف وخرير مياه المثاعب و لا تتوقف الذكريات مع رائحة الطين فحسب، بل إن صوت مثاعب الماء أو (الميازيب) والمرازيم يرى لها ويسمع خرير يبقى في المسامع حتى بعد توقف المطر، تصرف السيول من سطوح الدور تشكل ضمن منظومة التصريف العام حلقة مهمة للحفاظ على سلامة القرية من الغرق، و تقاس قوة المطر بقوة ذلك الخرير، فعبارة: "صبت المثاعب" تعني مطرا وصل حدا مناسبا وارتواء سطوح الطين والزائد من الماء انصرف نحو الطريق مع المثاعب، ويقال عن درجات المطر وقوته: رش أو رذاذ، أو صبت المثاعب، أو ديمة، والديمة في حال نزول المطر بهدوء واستمر على حاله، فإن تقطع وعاد فهو هتّان. يقول الشاعر عادي بن رمال من قصيدة له: فيا رب ترحمنا بنو ليا نشى تضمضم مزونه واقف البرق رعادي حنوٍ دنوٍ يوم يزبر ويرتدم شناخيب اجا كنك تشوفه ليا انقادي مقادم خياله ليل ارخى ذوايبه والاقصى بعيني خفرة تلبس حدادي ملاميع برقه يوم يلعج ويرتعد ملاميع شلال لشمس الضحى بادي يدف بعضه كنه ليا اقبل بجهمته مشي فحل ذود شيوخ بهجار وقيادي عريض المخايل ضف عرعر إلى اليمن تروّق بشرق وغرب والسيف له حادي وأقوى ما يوصف به السيل عند الإخبار عنه؛ ما جرت به الشعاب والأودية، وأما الزراعة فلا يزرعون إلا على مطر غزير جرت به الأودية والشعاب وراض في الروضات واستقر وفاض في الفياض ومكث بعد ارتوائها، يقول حميدان الشويعر: يا هبيل العرب لا تكد القصب لين سيله يعقب الرقيبية ويقصد ارتواء كل الأجزاء التي مر عليها السيل منحدرا من الشمال إلى الجنوب ومتجاوزا كل معالم البلدة والتي آخرها جنوباً "الرقيبية" وعلى هذا تكون الآبار قد خزنت ما يكفي للكد وهو العمل في الزراعة، أما السيل القليل فإنه لا يكمل معه المزارع مشروعه ولا يكفي ما اجتمع منه من ماء في البئر، فلا تكاد السنة تنتهي حتى تجف الآبار ويموت الزرع. وليس في القرى فيما مضى بلديات ولا مسؤول عن تصريف المياه ولا مشروعات عامة سوى ما تعاون الأهالي على تجهيزه حماية لقريتهم من أخطار السيول، لهذا يعتمدون كليا على بعضهم ومجهودهم وما تعارفوا على فعله والقيام به في حال نزول المطر أو جاء من السيل ما يهدد القرية ومبانيها وسكانها. وإذا كان المطر والسيل يستقبل بالبشر والفرح كما قلنا في كل البلدان الصحراوية، إلا أنه يصحب أيضا بخوف وقلق من الهدم والغرق، لأن كثيرا من أمطار الجزيرة فجائية وغزيرة وربما كانت كمياتها كبيرة والبلدان تقع بجوار الأودية ولهذا تتعرض لاجتياح السيول لها، وقد حصل في التاريخ عدة حوادث سميت سنواتها بسنة الغرق وبالهدم والهدام، في حال انهدام الكثير من الدور في وقت واحد، أما الهدم للدار الواحدة أو الاثنتين فكثيرة حوادثها لكنها متفرقة طول العام وإن كان أكثرها في فصل الأمطار وبسبب عدم قدرة الجدران الطينية مقاومة المياه. أيا رب ترحمنا بنو ليا نشى تضمضم مزونه واقف البرق رعادي ومن الفرحة بالسيل يراقب الناس منشأ السحاب واتجاه الغيوم، ويقومون برصد مساراتها المتوقعة وأماكن هطول أمطارها، ويسمون العملية تخييل، ويصدق توقعهم مع طول خبرات بعضهم في ذلك، كما يتجول عدد من المهتمين بالمطر أكثر من غيرهم لمسافات بعيدة عن القرية قد تصل إلى 7 أو 8 كيلومترات، في عسوس وريادة للسيل واستكشاف لمعرفة الأماكن التي أصابها المطر ومقداره، وذلك من باب الفرحة رغم أن معلوماته لن تقدم ولن تؤخر ولكن أخبار المطر يستقبلها الكثيرون وتشجع على مزيد من استجلابها. ولا تخلو الأسئلة الموجهة لمن قدم من سفر وقت الشتاء عن السيل وأخبار الربيع، وخاصة لدى أهل البادية ومن يمتلكون الحلال من غنم وإبل، وتستحوذ تلك الأخبار على جل ما يدور من حديث يصاحبها التفاؤل والاستبشار، ويحاول القادم من السفر امتاعهم بأجمل الأخبار، متغاضيا عن الأماكن التي لم يصبها المطر أو أقل نباتاً أو أمراضا تصيب الحلال والمراعي، فالناس تحب الأخبار السارة ومن أدب التعامل والحديث الاكثار من الأخبار المفرحة المؤنسة. وأغلب الكلمات المتصدرة للمحادثات والعبارات كلمة: أبشر، وأبشرك، والربيع زين والحلال يشبع، والخير مقبل، والحمد لله. وهي جمل تعطي الجو العام للمتقابلين مزيدا من الإسعاد والاسترسال في الأخبار والاستجابة وإن كان يعاد تكرارها بلا ملل. يقول الشاعر محمد السميري: يا زين شوف المطر والمزن همالي والبرق نوضه يشع بمقدم خياله غيثٍ من المزن هل بقدرة الوالي سبحان ربٍ عظيم الشان نلجا له أمطار رحمة وسقيا مزنهم عالي سحايب الخير بالخيرات هماله يقول الشاعر زيد بن عبدالله الهزاع: عسى الله يجيب السيل يلحق على الزراع مادام السواني طيبات بها شله وياحيسفا يابذرنا كان حبه ضاع وجانا العميل اللي يبي مطلبه كله مع الحب والصمعا ندوسه بوسط القاع ونذراه، لاهب الهواء عيشنا هله وأما سر الفرحة والاستبشار بالمطر فلأنه حياة الناس والنبات والمراعي والزروع فمهما كثرت وتعددت المناشط رغم أهميتها من صناعة وتجارة وحرف ومجالات الاقتصاد كلها التي توفر لنا المال والقدرة الشرائية والمالية، إلا أنه لا غنى عن الماء والمطر والزراعة والغذاء. ولو لاحظنا جميع التجمعات السكانية من هجر وقرى ومدن كبيرة أو صغيرة سنجدها أقيمت أساسا وابتداءً على حواف الأودية وبقربها، وحول أماكن الخصب والرعي والنباتات. إن توفر الماء في المكان يشجع على الاستقرار فيه، بل هو أساس السكنى، وبدونه لا يمكن قيام حياة ومن هذا الارتباط المتلازم والدائم بين الماء والحياة وضرورة توفره جعل الهاجس فيه يسبق كل تخطيط، والتفكير في توفره يهيمن على البقية مهما كانت درجة أهميتها فهي ليست أهم من الماء. وهذا كله ولد الشعور الحقيقي بالفرحة عند رؤية السحاب وهطول المطر أو رؤية جريان الأودية. المخيال مراقبة السحاب ورصد مساراتها