كم هو مرعبٌ، أن تقرر نشر كتاب يوضع على أرفِّ مكتبة بجوار مؤلفات عظماء الفكر والأدب العالمي. إنه قلق تأليف الكتب والإحساس العالي بالمسئولية اتجاه القرّاء وذائقتهم المتنامية والحديثة. غير أن هذا القلق يكاد ينعدم بالنسبة للكثير من "المؤلفين" المحليين ونحن نشاهد اللهاث المستعر للنشر، نشر أي شىء فقط من أجل تحقيق الذات و"تسمين" السيرة الذاتية والحصول على "تكت" دخول الأوساط الثقافية والتباهي بنشر مجموعة شعرية "يتيمة" أو رواية عصية على التصنيف أو قصص متشظية ولكن من ذلك النوع الذي يصيب القارىء بالنفور والخيبة. و"الخيبة" هو الشعور العام لمن يتجول بين أروقة المكتبات اليوم. شحوم الورق تملأ أقسام الكتب العربية والمحلية؛ بمباركة دور نشر تجارية تلهث وراء أي كاتب يحقق شهرة ما على شبكات التواصل ويستطيع تسويق كتابه بتغريدة أو يدفع مسبقا قيمة ما يريد نشره حتى لو كان من النوع غير الصالح أصلاً للقراءة. والجديد: لا شىء سوى المزيد من الثرثرة والتفريغ والبوح الفارغ باسم الأدب، على حساب الصنْعة والاشتغال الفني الغائب بالمجمل. هل سأل المؤلف الهُمام نفسه سؤالا ولو لوهلة: ما الذي يدفع القارىء لاقتناء كتابي عندما يوضع في المكتبة بجوار كتب محمود درويش وسارماغو وكافكا وجورج أورويل والكثير ممن نُحتت اسماءهم أعلى قمم الأدب العالمي. ما الجديد الذي سوف أضيفه للمكتبة عندما أقرر نشر كتاب في أي مجال؛ سيما الأدب الذي هو موضع "ابتلاء" هذا المقال. "الأدب المدفوع"، إنه الكارثة التي حلت قبل عقدٍ وأكثر، عندما فتحت دور نشر عربية ومحلية باب النشر بمقابل مادي، لطلاب وموظفات وموظفين أرادوا كسر روتين حياتهم المملة بنشر الروايات عبر شذراتٍ خواطرية تنتهي في كتاب "شعري" أو قصص متهالكة الحبكة أو رواية تنضم لطابور روايات الخيبة التي يتلقفها ناقد بانورامي يتحدث عن كل جوانب الكتاب الاجتماعية والنسوية والاقتصادية والبايلوجية دون أن يتطرق أبدا للحديث عن الضعف الفني وقلة وعي المؤلف بهذا النوع الأدبي الذي يكتب فيه، ليس لأنه لا يريد بل لأن العديد من السادة النقاد يهربون من اختبار النقد الفني وتحليل النصوص وكشف مواطن القوة والضعف، إلى النقد الانطباعي والثقافي والأخير هو الفايروس الذي فتك بالأدب، وحجم تطوره وسمح للعديدين أن يصدقوا بأن ما ينشرونه ينتمي لسلالة الأدب العظيم. والسؤال الملِحّ، هل لظاهرة "الأدب المدفوع" أن تخفت وتتراجع مع التحولات الاقتصادية القائمة. بالنظر لحالة الكساد العامة، ربما يشعر الكُتّاب المتهورون أن ثمة ما هو أهم من النشر في سلم أولويات المعيشة، هذا إذا تذكرنا أن صعود موجة "الأدب المدفوع" ارتبطت بفترة نمو اقتصادي وطني عام. من جهة أخرى، هناك حقا من تدارك الأمر، بعد أن تشبعت سيرته الذاتية بالكتب وبعض اطراء أصدقاء المقهى الطيبين وحان الوقت لأن يلتفت لأمور حياتية أجدى وأهم وهو يرى الناشرين والقرّاء مشغولين بطبع وقراءة كتب الأدب المترجمة، يتباهون بصدورها وامتلاكها ويتبادلونها ويرشدون بعضهم إليها وكأنها تحمل مسبقاً علامة الجودة. صحيح أن بعض هؤلاء القرّاء يتعامل ويستهلك ومؤلفات كتّاب الأدب العالمي وكأنه يستعرض ماركات ساعات سويسرية أو أقمصة إيطالية وحتى حقائب جلدية إنجليزية؛ ما دامت هذه الكتب تؤدي ذات الغرض: المتعة. ومع كل هذا، فإن القارىء لن يضيع الوقت في قراءة 500 صفحة لا تنطوي سوى على البوح والاستعراض اللغوية الذي يخلو من فن الكتابة في مختلف الأجناس الأدبية. وأخيرا، مرجحٌ أن تؤثر الضغوط الاقتصادية على نشر "الأدب المدفوع" فالطبقة الوسطى الآخذة في التقلص لديها التزامات ومسؤوليات متصاعدة ستضغط على الأنا الفردية لتخفف نرجسيتها وأوهامها السعيدة. أما الكاتب الشاب الذي يمتلك الحرفة الأدبية فلن يُهمل من قبل دور النشر التي تحترم مهنتها؛ سوف تتبنى نشر كتابه حتى لو غامرت باسم مجهول. أليس في روائع الآداب العالمية مؤلفاتٌ لكتّاب كانوا مجهولين ومغمورين في بداياتهم. هذا هو الرهان، بأن يستعيد النشر تقاليده العريقة ولا يصل إلى القرّاء إلا ما يستحق القراءة.