في رمضان المنصرم زرت مدينة هيروشيما اليابانية لأول مرة في حياتي. وهي مدينة لا يمكن زيارتها دون الحديث عن أول قنبلة ذرية ألقيت فوقها عام 1945.. في حديقة السلام التي تتوسطها تجد مُتحفاً يتضمن صوراً مأساوية، وبقايا متحولة، وداراً للأوبرا لم يدمر بالكامل ولكنه أصبح نصباً للسلام ضمته اليونسكو لقائمة التراث العالمي.. حين تجولت في المُتحف علمت أن درجة الحرارة في مركز الانفجار تسببت في وفاة 80 ألف إنسان بشكل فوري (ضمن دائرة قطرها 3 كلم).. وكان هؤلاء هم المحظوظين الذين تبخروا على الفور كون العواصف النارية خارج مركز الانفجار تسببت في سلخ أعداد هائلة من البشر واحتراق 69% من مباني المدينة.. وفي الأيام القليلة التالية مات المزيد من الناس بسبب الحروق والتسمم الإشعاعي في حين تسببت الإشعاعات القاتلة في إصابة الناجين بالسرطان ووفاة أعداد إضافية عاماً بعد عام.. وكل هذه الأضرار الفظيعة حدثت بسبب قنبلة بدائية لم ينشطر منها سوى خمس مادة اليورانيوم التي تضمنتها (وهي بالمناسبة أضعف بست مرات من القنبلة الهيدروجينية التي صنعت بعدها وتعتمد على مبدأ الاندماج النووي).. ففي ذلك الوقت كانت عملية "الانشطار الذري" جديدة نسبياً وكان الأميركان في حالة سباق مع روسياوألمانيا ولم يدركوا هم أنفسهم مستوى الدمار الذي يمكن أن تسببه للبشر.. فخلال الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا وبريطانيا وروسيا وأميركا تملك برامج عسكرية خاصة لصنع القنبلة النووية.. وكانت ألمانيا هي الأقرب لتحقيق هذا الإنجاز لولا هزيمتها وتعرضها لسلسلة من الظروف التي رجحت تفوق الأميركان (مثل انتقال المشروع البريطاني طواعية إلى أميركا، واستسلام العلماء الألمان للقوات الأميركية خوفاً من القوات الروسية..). أضف لهذا لم تكن أميركا قد أنهكتها الحرب العالمية كما حدث للدول الأوربية فحشدت كامل إمكانياتها لصنع هذه القنبلة ضمن مشروع سري دعي حينها بمشروع مانهاتن.. وفي منتصف 1945 أصبحت القنبلة الذرية جاهزة لحسم الحرب لصالح أميركا وحلفائها في أوربا. غير أن المانيا النازية كانت حينها قد انهزمت فعلياً ولم يعد هناك داعٍ لقصفها بالقنابل النووية.. وفي المقابل كانت أميركا تعاني على جبهتها الشرقية من خسائر بشرية فادحة جراء تطهير جزر المحيط الهادي من القوات اليابانية.. وهكذا لم تجد أفضل من قصف اليابان بالقنابل النووية لإجبارها على الاستسلام دون معارك إضافية. وفي السادس من أغسطس 1945 ألقت أول قنبلة ذرية على هيروشيما، وبعدها بثلاثة أيام القنبلة الثانية على نجازاكي منهية حياة 74 ألف إنسان بطرفة عين.. بقي أن أشير إلى أن أميركا كانت تنوي الاستمرار في إلقاء 12 قنبلة ذرية على اليابان لولا إعلان الامبراطور هيروهيتو استسلام بلاده للقوات الأميركية.. وما أدهشني (خلال زيارتي الأخيرة) هو اعتراف اليابانيين أنفسهم بأنه لولا أميركا لاستمروا كدولة غاشمة تحتل أجزاء كبيرة من آسيا.. فتفوق عدوهم النووي حولهم لدولة منتجة للطاقة النووية السلمية، وتفوقه التقني جعلهم يستبدلون غزوهم العسكري بغزو صناعي دخل بيوت العالم أجمع..