الخبرة والمعرفة نوع مختلف من الذكاء لا نولد به ولا نتنبه غالباً لوجوده.. فقد يكون أحدهم ضعيف العقل ولكنه بمجرد سماع "صوت المكينة" يحدد العطل بطريقة يعجز عنها أكثر الأذكياء.. يمكنه فعل ذلك إن كان يملك معرفة ميكانيكية وخبرة سابقة في هذا النوع من الأعطال فيبدو عبقرياً مقارنة بالناس حوله.. وهذا يعني أن كل معرفة وتجربة جديدة ترفع ذكاءك (درجة) ومستواك الذهني بطريقة ملموسة.. وأنا شخصياً أعتبر نفسي محظوظاً كون كتابة المقالات العلمية والمنهجية تسمح لي بالتعلم بشكل يومي والاطلاع على أفكار ومعارف جديدة بشكل مستمر.. وليس أدل على دور المعرفة في رفع الذكاء من مساهمة التعليم في رفع متوسط ذكاء الشعوب.. فمجانية التعليم في معظم دول العالم رفعت درجات ذكاء الأجيال الجديدة. واليوم أصبح مؤكداً أنه كلما ارتفعت جودة التعليم (كما نلاحظ في فنلندا واليابان وكوريا الجنوبية) كلما ارتفع متوسط ذكاء الشعب مقارنة ببقية الأمم.. وهناك فرضية تدعي أن التعليم والمعرفة والاطلاع يرفع ذكاءنا (ليس فقط لأنها تمنحنا تجارب وخبرات جديدة) بل ولأنها أيضا تعيد تنظيم الأطراف العصبية والخلايا المعنية في الدماغ بطريقة فعالة تخدم الذكاء وطرق التفكير وسبق وكتبت مقالاً في صحيفة الرياض تساءلت فيه عن إمكانية توليد المعرفة في الدماغ بطريقة معاكسة من خلال حث الخلايا وترتيب الروابط العصبية فيه!! ... وفي المقابل هناك الجهل والسطحية والمعلومة الجاهزة.. فالجهل يعني الثبات على العقل الطفولي الذي لا يمتلك خبرات تراكمية ومعارف كافية لمواجهة العالم وحده.. أما السطحية فلا تتعب الدماغ ولا تحثه على العمل ولا تعيد تنظيم الخلايا العصبية ليصبح أكثر فعالية.. أما المعلومة الجاهزة (التي لا تمتزج في الذهن بغيرها لتخلق معرفة جديدة) فهي بدورها مريحة وساذجة وسطحية لا تخدم ذكاء الإنسان ولا تطور طريقته في التفكير.. ولهذه الأسباب يتهم خبير التعليم نيكولاس كار شبكة الإنترنت بخلق جيل سطحي في تفكيره واتكالي في بحثه عن المعرفة (وربما لهذا السبب توقف متوسط الذكاء في أوربا منذ منتصف التسعينات).. ويعتقد نيكولاس أن أرشيف جوجل السريع واللامحدود يمنعنا من التفكير الذاتي والتأمل العميق بعكس قراءة كتب البحث المنهجي وهذا بحد ذاته قد يؤثر فعلياً على تركيبة أدمغتنا الداخلية.. .. وأنا شخصياً أتفق مع السيد نيكولاس بخصوص دور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الثقافة الضحلة، ولكن في نفس الوقت لا ننسى أن المعرفة "الضحلة" خير من عدم الاطلاع أو القراءة نهائياً (حيث يحجم معظم الناس أصلاً عن قراءة الكتب العميقة، في حين يقبلون بشغف على الإنترنت ويتعلمون من خلالها).. ... وإن كان خبراء المعرفة يتهمون النت بتعليم الأجيال الجديدة السطحية والضحالة الفكرية فماذا نقول نحن عن مناهج دراسية مقولبة ومسبقة الصب بحيث لا يجوز نقضها أو تجاوزها أو الإضافة إليها!! وقبل ختم المقال دعونا نعود لموضوعنا الأساسي: الطريقة المجربة لرفع الذكاء هي القراءة اليومية الجادة.. افتح كتاباً لا تعرف عنه شيئاً واحتفظ بالإنترنت لمشاهدة كيف يسير العالم..