«:الحركة العلمية والثقافية والأدبية في مكةالمكرمة.. والرحلات وأثرها في العالم الإسلامي» هي عنوان المحاضرة التي قَدَّمها الدكتور عايض بن خزام الروقي؛ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بقسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية بجامعة أم القرى؛ وذلك في الخيمة الثقافية بجناح المملكة العربية السعودية المشارك في معرض القاهرة الدولي ال38 للكتاب والذي تنظمه وتشرف عليه الملحقية الثقافية السعودية بالقاهرة. شهدت المحاضرة إقبالاً جماهيرياً ملحوظاً، وحضرها الملحق الثقافي السعودي بالقاهرة محمد العقيل، وأشار فيها د.الروقي إلى أن مكةالمكرمة التي اختارها الله عز وجل وأعظم مكانها ومكانتها وأكثر من مزاياها هي منبع الإسلام، وبها المسجد الحرام، وفيها ومنها ولد وبعث سيد الأنام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال د.الروقي: الحديث عن مكةالمكرمة شيق وجميل، ومداده لا ينقطع، والاستماع إليه لا يمل. ومكةالمكرمة؛ حرسها الله؛ تمثل عاصمة الثقافة الإسلامية على مر العصور والأزمان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد تطرق الدكتور الروقي في محاضرته إلى ثلاثة محاور، هي: الحركة العلمية والثقافية في مكةالمكرمة، الرحلات وأثرها في العالم الإسلامي، والحركة الأدبية في مكةالمكرمة. ومن بين ما قاله د.الروقي في محاضرته: تميزت مكةالمكرمة بنشاطها العلمي والثقافي والحضاري منذ زمن مبكر، فقد كانت قريش في مكةالمكرمة قبل بزوغ فجر الإسلام من أبلغ العرب وأفصحها في الخطابة والوصايا والأمثال، ومارسوا في جاهليتهم ألواناً من الأدب العربي العالي، وقد حفظت لنا أمهات الكتب العربية القديمة أمثلة كثيرة من نفائس الأدب الذي عرفته قريش في مكةالمكرمة والقبائل الأخرى حول مكة مثل قبيلة هذيل، وعرفت أسواق مكة التجارية تنافساً فكرياً بين المفكرين والشعراء وأصحاب البيان، حيث كانت ملتقى الخطباء والشعراء، ومكاناً ثقافياً ليس له نظير، وكانت منطقة مكةالمكرمة تضم بين جنباتها أشهر أسواق العرب في العصر الجاهلي مثل سوق ذي المجاز وسوق عكاظ وذي مجنة، حيث كان للعرب في العصر الجاهلي حياتهم العلمية المتميزة في البيان والشعر والخطابة وعلم الأنساب وأخبار الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم واحتكت بهم في التجارة والجوار. وتوسعت الحركة الثقافية والعلمية في مكة في عهد الخلفاء الراشدين، وظل كثير من شيوخها عاكفين على تعلم القرآن وتعليمه، وزاد عدد الكاتبين الذين بدأوا في تدوين ما تلقوا من آيات القرآن الكريم عن شيوخ الصحابة وكبار المهاجرين، وظل المسجد الحرام يزدحم برجال الحديث والقراء وأصحاب الفتوى، وظلت حلقاتهم تناقش تفسير الآيات، ويتضاعف اتساع الحلقات في مواسم الحج ويشتد تنافس طلب العلم كلما جاء إلى مكة من المدينةالمنورة أحد الصحابة المشهورين بترددهم على مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباتت مكةالمكرمة في عهد الخلفاء الراشدين محط أنظار المسلمين ومقصدهم للأخذ عن علماء الصحابة الذين يقطنونها، وكانت الرحلة إليها من جميع أصقاع البلاد الإسلامية. وفي العهد الأموي غصت أرجاء المسجد الحرام بطلبة العلم والزهاد والمنقطعين للعبادة، وحافظ المسجد الحرام على مكانته العلمية والثقافية وبروز علمائه الرواد طوال العصر العباسي، وفي العصور المختلفة اشتهرت بعض الأُسر المكية بالعلم والمعرفة، وكانت تتخصص في طلب العلم وتتوارثه كما تتوارث خطب الجمعة والإمامة في المسجد الحرام، ومن أبرز هذه الأُسر في القرن السادس الهجري آل الطبري التي استمرت إلى القرن الثالث عشر الهجري، ومن هذه الأُسر آل ظهيرة وآل النويري. ولم تتوقف الحركة العلمية والثقافية في مكةالمكرمة طوال المراحل التاريخية المتلاحقة، حيث كانت هناك جهود كبيرة يقوم بها بعض الأغنياء والأمراء من أقطار العالم الإسلامي سواء في إنشاء المدارس أو الإنفاق على التدريس والمدرسين وطلبة العلم. وقد اشتهرت مكةالمكرمة - يقول د. الروقي - بمكتباتها العريقة، وعُرِفَ عن المجتمع المكي شغفه باقتناء وتشييد المكتبات التي تسابق السلاطين والعلماء والأعيان في تحبيس الأوقاف عليها. وإذا رجعنا إلى المسجد الحرام ندرك أنه كان المنتدى الأكبر في انتشار العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية، وكان هو الجامعة المتميزة، فلم تَعْدَم مكةالمكرمة في أي عصر من العصور الإسلامية العلماء والفقهاء النابهين سواءً من أبنائها أو من الوافدين إليها من أبناء العالم الإسلامي، وكان من ثمار المسجد الحرام كثير من المؤلفات العلمية القيمة ذات المكانة المتميزة والمرجعية المهمة عند المسلمين، وفي مقدمتها صحيح الإمام البخاري. وإن حركة التعليم الديني في أم القرى لم تتوقف أو تضعف في أي عهد من العهود برغم كل الظروف والفتن، وإنما ظلت مستمرة ومضيئة من القرن الهجري الأول إلى يومنا هذا. ولأن مكةالمكرمة هي رائدة التعليم والثقافة، كما يوضح د.الروقي؛ فقد كان التعليم العالي في المملكة العربية السعودية منطلقاً منها، حيث صدر الأمر الكريم بافتتاح كلية الشريعة والدراسات الإسلامية سنة 1369ه في مكةالمكرمة، واتخذت الكلية من جبل هندي مقراً لها حيث بدأت بتدريس أول دفعات التعليم العالي وعددهم أربعة عشر طالباً، ثم أنشئت كلية المعلمين بمكةالمكرمة سنة 1372ه، وكانت أول دفعة من طلابها 35 طالباً. وإلى جانب هذه المؤسسات العلمية الرائدة كان هناك المعهد العلمي السعودي الذي تأسس في عام 1345ه بمكةالمكرمة تحت اسم المعهد الإسلامي، وفي سنة 1352ه صدر الأمر الملكي بافتتاح دار الحديث بمكةالمكرمة للعناية بالحديث النبوي الشريف. ويشير د.الروقي إلى أن مكةالمكرمة قد شكلت مركز جَذْبٍ مُهِم لعلماء المسلمين من خلال مجموعة من العوامل، منها: قدسية مكةالمكرمة ومكانتها العلمية، والرغبة في أداء فريضة الحج والتزود بالعلم من علمائها الأجلاء، والسمعة الطيبة لعلماء مكة وشيوخها. ومن هذا المفهوم ومن تلك المنطلقات نجد أن الرحلات العلمية الأندلسية نحو مكةالمكرمة كانت تنطلق بصفة شبه مستمرة ولا سيما خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، وقد حملت لنا كتب الطبقات والتراجم الشيء الكثير عن هذه الرحلات والقائمين بها والمكتسبات التي تحدثوا عنها عند عودتهم إلى أوطانهم. وما يقال عن الرحلات الأندلسية يقال عن غيرها من الرحلات المغاربية واليمنية ومن شرق العالم الإسلامي وأمصاره المختلفة. ويؤكد د.الروقي في محاضرته أن الحياة الأدبية تزهو وتتقدم دائماً مع تقدم الحياة الثقافية والعلمية في مكةالمكرمة على مر العصور والأزمان، وأن المقيمين في مكة والعاملين بها هم عينات واقعية لكل أقطار العالم الإسلامي، فقبل أن يظهر مصطلح العولمة وتتشابك الحضارات كانت مكةالمكرمة هي المثل الحقيقي للقرية العالمية التي تشارك فيها كل الملامح البشرية، ومن المؤكد أن أهل مكة قد تأثروا بكل هذه الطبائع الوافدة عليهم، وهذا ما أدركه الأديب المصري محمد لبيب البتنوني في كتابه «الرحلة الحجازية» حيث قال: «خليط في خلقهم، فتراهم قد جمعوا إلى طبائعهم وداعة الأناضولي، وعظمة التركي واستكانة الجاوي وكبرياء الفارسي ولين المصري وصلابة الشركسي وسكون الصيني وحدة المغربي وبساطة الهندي ومكر اليمني وحركة السوري وكسل الزنجي ولون الحبشي، بل تراهم جمعوا بين رفعة الحضارة وقشف البداوة». ويقول د. الروقي: إن الحركة الأدبية في مكةالمكرمة شعراً ونثراً لم تفقد قيمتها في أي وقت من الأوقات، والشعر - من مكة ولها - له رونق وأهمية بارزة، فهو يجمع بين البعد الديني والمشاعر الإيمانية، وبين قوة الشعر ومشاعر الشاعر تجاه مكة، ومكانتها الروحية والتاريخية والمكانية.