أول انفراج عربي نحو تصحيح واقع مرير، جاء من السودان، أي أن الساعات القادمة ستشهد توقيع اتفاق نهاية مأساة حروب الجنوب مع الشمال، وفق رؤية اختزلت فرضيات انتصار طرف على آخر، وهي خاتمة أي حرب أهلية تستنزف المتحاربين وتقنعهم بالحقيقة النهائية، والسودان أدرك من تجربته أن السلام يوفر الاستقرار وبناء وطن جديد على أسس أكثر ديمومة وتواصلاً، خاصة وأن ثرواته الطبيعية تفوق ثروته البشرية إذا ما استطاعت الفئات الشعبية الاندماج وتحقيق التنمية الصحيحة باستغلال كل الموارد المتاحة. في فلسطين تجري انتخابات مثالية، قياساً لكل الأشكال التي جرت وتجري في المنطقة العربية، لأنها وسعت حرية الاختيار، وأعطت المراقبين الدوليين حق الكشف عن أي تجاوزات، وهذه التجربة منافعها لا تعود على شريحة معينة تصل إلى القيادة إذا ما عرفنا حجم التحديات الكبيرة، وإنما أثرها الإيجابي يلغي مبررات إسرائيل بوصم السلطة الفلسطينية بالإرهابية، والدكتاتورية التي تغذي العنف بسياستها ورسم أهدافها.. الفلسطينيون ينتخبون تحت الحصار، ومع ذلك بقيت الخلافات في نطاق المفهوم الوطني، والمسؤولية الذاتية للأشخاص، والمجاميع المختلفة، وهذا الإدراك الواعي يؤكد أن وحدة الفلسطينيين أقوى من الصراع على مراكز السلطة، أو الاتجاهات التي تتنازعها المنظمات المتغايرة فكراً، وعقيدة، والتي تلتقي عند الهدف الوطني، والتحديات التي تفترض تجاوز جميع الخلافات من أجل مشوار الحلول الطويلة.. إسرائيل لا تستطيع أن تعيد مفهوم التهم القديمة، لأن تحقيق الديموقراطية لشعب رفضت التفاهم، وتقاسم المسؤوليات معه ورسم حدود لبناء الثقة من أجل تعايش طويل، لم تعد صحيحة، لأن الرأي العام العالمي الذي يراقب سير الانتخابات في تأسيس حكومة وطنية يفوضها شعبها على فتح نوافذ السلام وفق مصالح محددة لا تفترض التنازل، هي غاية بذاتها، تحميها طبيعة وصولها للسلطة، وبالتالي فالفرصة مواتية أن يكون السلام هدفاً بغايات غير مبتسرة، أو اعتبار القوة معيار فرض الهيمنة، لأن الفلسطيني إذا ما شعر أن السلام يوفر له حقوقه، لا يمكنه تفضيل الموت على الحياة، وإسرائيل أيضاً تعلم أن مسلسل الحرب لم يوفر لها الأمن والاستقرار، وبالتالي لابد من الاعتراف بالحقيقة بأن الحل مع الفلسطينيين بوابة العبور إلى تعايش طويل مع دول المنطقة.. السودان وفلسطين نموذجان لضوء في آخر النفق، فهل تكون هذه المبادرة طريقاً لحل إشكالات عربية أخرى، وبنفس المقدار من الوعي والمسؤولية القومية؟