«نشرت جريدة السفير اللبنانية في عددها يوم أمس هذا الخطاب المفتوح إلى خادم الحرمين الشريفين ولما يحمله من تجسيد لمكانة خادم الحرمين الشريفين عربياً ودولياً فإننا ننشره ليطلع عليه القارئ هنا» ٭ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، عذراً لهذا التوجه العلني إليكم، لكن لحظة الخطر التي نعيش في لبنان، ودرجة التوتر المتفجر التي تشهدها العلاقات اللبنانية السورية، في ظل أشكال من التدخل الدولي الفظ الذي يبرّر نفسه بالحاجة إليه في ظل غياب عربي شبه كامل، كل ذلك معاً، وغيره مما تعرفون مما لا نعرف، دفعنا إلى التوجه إليكم بطلب مبادرة إنقاذية لا يقدر عليها إلاكم، لمنع كارثة قومية جديدة لن تنحصر أضرارها المدمرة، إذا ما انفجرت لا قدّر الله، في البلدين الشقيقين إلى حد التكامل، بل هي ستصيب مجموع الأمة في سائر أقطارها، والعياذ بالله. خادم الحرمين الشريفين، لسنا بحاجة لأن نعيد على مسامعكم وقائع تعرفونها عن الأحداث التي شهدها لبنان طوال الأربعة عشر شهراً الأخيرة بدءاً بخطيئة التمديد التي استبقها وإن لم يمنعها قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي رأى فيه كثيرون مقدمة لمباشرة تدخل دولي غير مطلوب وغير مرغوب به في الشؤون الداخلية كما في علاقة لبنان بالشقيقة سورية. على أن جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقعت على لبنان واللبنانيين، وعليكم بالذات كما على العرب جميعاً، وعلى أصدقاء العرب في العالم، وقوع الزلزال المدمر. توالت بعد ذلك التداعيات ثقيلة الوطأة، ناضحة بالمرارة: انفجر لبنان بالغضب واللوعة، واضطربت شؤونه جميعاً، واختل التوازن في حياته السياسية، ووقع شرخ مفزع في علاقاته بالشقيقة سورية، استفادت منه القوى الأجنبية لتزيد من مساحة تدخلها، مفترضة أنه بات مطلوباً أو مرغوباً ومرحباً به.. وغني عن البيان، أيها المليك العربي الكبير، أن تلك التداعيات لا تزال متواصلة، خصوصاً أن مجلس الأمن الدولي قد وضع يده على جريمة الاغتيال، بقراره الرقم 1595، وشكّل لجنة تحقيق دولية عملت لمدة ستة أشهر، ووضعت تقريرين استصدر كل منهما قراراً جديداً من مجلس الأمن: الأول يلح على سورية بضرورة التعاون مع اللجنة، في ظل التهديد بالبند السابع، والثاني يسجل لها تعاونها وإن طالبها بالمزيد من التعاون للوصول إلى الحقيقة، مع إشارة واضحة إلى أن التحقيق يتطلب زمناً أطول من توقع المتعجلين، كما يتطلب روية لا يملكها من لم يكن استشهاد الرئيس الحريري عنده فاجعة وطنية، والتحقيق لكشف الجناة مطلب حق وعدل، بل هو لم ير في الجريمة إلا موضوع مزايدة غير جائزة وغير لائقة، ولكن الاستثمار السياسي يبرر، كما تعرفون بواقع تجاربكم العريضة، كل المحظورات.. خادم الحرمين الشريفين، اسمحوا لي أن أقدم، بإيجاز شديد، صورة الوضع السائد في لبنان ومن حوله: إن الجو في لبنان ينذر بمزيد من المخاطر التي قد تتجاوز أي تقدير: فلا الداخل مستقر، ولا العلاقة مع الشقيقة سورية على طريق السلامة بل هي على حافة التفجر، ولا مداخلات الدول عامل اطمئنان... ثم إن مسلسل الاغتيالات السياسية التي بدأت بالمحاولة ضد الوزير مروان حمادة قد لا يتوقف مع اغتيال شهيد الصحافة زميلنا جبران تويني. كذلك فإن التحالفات الانتخابية التي أنتجت تحالفاً رباعياً واعداً بأن يشكل ضابطاً للإيقاع السياسي في الداخل اللبناني، تبدو الآن كأنها مهددة بالتصدع والانهيار، فالعلاقات بين كتل المستقبل (الحريري) واللقاء الديموقراطي (جنبلاط) و«حزب الله» ومعه حركة «أمل»، مهتزة، وينذر تصدعها بانفراط عقد الحكومة التوافقية القائمة، حتى الآن، ولو مشلولة.. ومن البديهي أن هذه الحكومة التي تطلبت جهوداً مضنية لتشكيلها سيتعذر استبدالها بحكومة جامعة وموثوقة ومؤهلة لتأمين الاستقرار في البلاد التي يقض مضجعها القلق على الحاضر قبل المستقبل، والتي لم يعد رئيس الدولة فيها حكماً مقبولاً أو مرجعية محصنة بالإجماع أو حتى بالأكثرية. ودمشق لا تزال مستنفرة، تعامل نفسها وتعامل الآخرين كأنها في حالة حرب مع لبنان ما بعد خروجها منه، تستريب في حركة العديد من قواه السياسية التي عادت إلى الساحة أو استعادت اعتبارها فيها، وترد بعنف يتجاوز أي تقدير على ما يوجه إليها من مطالبات (ترسيم الحدود، الإقرار بلبنانية مزارع شبعا، إقامة تمثيل دبلوماسي) فضلاً عن أنها لا تتمالك غضبها من توجيه أصابع الاتهام إليها في عمليات الاغتيال التي طاولت عدداً من الشخصيات السياسية والإعلامية. لقد أعلنها الرئيس السوري بشار الأسد بصراحة مطلقة: أنه يرى في ما يجري في لبنان مقدمة أو تمهيداً لحرب ضد نظامه يشنها تحالف من القوى المعادية، وهو لن يستسلم بل سيقاتل لحماية بلاده ونظامه ولتعم الفوضى كل الدنيا.. وثمة في لبنان من رأى في هذا الكلام الرئاسي تهديداً مباشراً موجهاً إلى الجميع.. وحتى من يريد أن يطمئن القيادة السورية لا يعرف الطريق إليها أو إلى إقناعها، ولو بالواسطة، لأن ماضياً من التجارب غير الناجحة يقف سداً عالياً يمنع التواصل أو الاطمئنان أو استعادة الثقة بين الطرفين.. خادم الحرمين الشريفين، إن لبنان مهدد بالتصدع، مرة أخرى، وبالتالي فإن أوضاعه تنذر بنكبة عربية جديدة يستولدها انقسامه الذي قد يأخذه إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، خصوصاً مع جو الخصومة السائد بين قوى أساسية فيه (في الحكم وخارجه) وبين القيادة السورية. ومن البديهي أن يتوجه اللبنانيون بطلب النجدة للوصول إلى حل يحفظ وحدتهم ويحفظ دولتهم، بهويتها العربية، إلى إخوانهم العرب، وبالتحديد إلى دولهم ذات الدور القيادي المؤثر، وهي معدودة، ... خصوصاً أن اللبنانيين يعرفون، بالتجربة المرة، أن التدخل الدولي لم يكن هو الحل أو الطريق إلى الحل، لا في بلدهم الصغير، ولا في أقطار أخرى، وهذا العراق شاهد وشهيد، فضلاً عن المأساة الفلسطينية المفتوحة. ومع التقدير العالي للمبادرة المصرية التي رعاها الرئيس محمد حسني مبارك، ومعها مساهمات أخرى بينها ما حاول ويحاول السودان أن يبذله من موقعه كرئيس للقمة العربية العتيدة، ومع التقدير للجهد الذي باشره الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، بحكم موجبات موقعه وبتشجيع مباشر من مصر ومعها بعض الدول العربية لعل بلادكم لم تكن خارجها، إلا أن ذلك كله، وكما تدل الحملات السياسية المتبادلة، وهي قاسية وتنذر بتجاوز حدود الاعتراض السياسي، غير كاف لمواجهة معضلة معقدة تختلط فيها الوقائع المرة بسوء التقدير، وتتمازج فيها الأحقاد ومشاعر الثأر والرغبة بالانتقام. إن القيادة السورية تعيش حالة غضب من اضطرارها إلى سحب جيشها من لبنان تطارده صيحات تجاوز حدود الخصومة إلى مشارف العنصرية. واللبنانيون، بعامة، يمضغون شعوراً من خيبة الأمل في رحابة صدر «الأخ الأكبر»، وتفهمه لمشاعر الفجيعة التي أصابتهم مرتين: الأولى بخسارتهم لرجلهم رفيق الحريري، والثانية برد الفعل السوري الذي جاء محكوماً بالصدمة لاتهامهم بجريمة الاغتيال، ومن ثم بالرغبة في الثأر ممن «أخرجوهم» من جنة لبنان مرغمين، في توقيت غير ملائم لهم، بالتأكيد، وتحت ضغط من النقمة الكافية لتغطية التدخل الدولي. خادم الحرمين الشريفين، إن لبنان في مأزق خطير يهدده بالتصدع، وسورية تبدو كأنها وقعت أسيرة رد الفعل على كيفية انتهاء مرحلة تفويضها بالشأن اللبناني، وعبر الصراع المفتوح بين المصالح والعواطف والأحقاد، أخذت الحملات تتجاوز الخطوط الحمر وتمس ما لا يُمس، إذ صارت المقاومة التي نعرف مقدار احترامكم لتراثها الجهادي ولقيادتها الحكيمة موضع مساومة رخيصة في البازار السياسي المفتوح.. خادم الحرمين الشريفين، وحدكم المؤهلون والقادرون على المبادرة إلى إنقاذ لبنان وسورية، وبالتالي الأمة العربية، من كارثة جديدة، ستترك آثارها المدمرة على المستقبل العربي برمته، وفلسطين بداية، خصوصاً مع الجرح المفتوح في العراق، والنزف الذي يهدد بأن يصبغ منطقتنا كلها بالأحمر القاني. إن لبنان يتطلع إليكم طالباً نجدتكم الشجاعة والسريعة، كذلك فإن سورية تحتاج إلى مثل هذه المبادرة، بقدر ما يحتاج اليها لبنان وأكثر، فما لم تتدخل المملكة العربية السعودية فتلجم المواقف والعواطف، أفعال الغضب وردود الأفعال الثأرية، التصرفات الكيدية والرغبة في الانتقام، وصرخات المطالبة الارتجالية بالتدخل الدولي لمن يريد حماية نفسه من الانتقام، فضلاً عن تحركات من يريد أن يستعيد اعتباره، ومن يريد أن يؤكد نفسه بإلغاء غيره، ما لم تتدخل المملكة، بما لها من رصيد ممتاز، وبمبادرة شخصية منكم، بما لكم من نفوذ معنوي ومن دالة ومن بصيرة ترى الصورة بكليتها، ومن ترفع عن الأحقاد والضغائن والأخطاء الشخصية، ومن بعد عن الارتجال، ما لم تتدخلوا، بالحزم والحسم والصدق والإخلاص والإحساس بالمسؤولية الشاملة، يا خادم الحرمين الشريفين، فإننا نمشي إلى الكارثة بأقدامنا.. فالبدار، البدار، أيها الملك العربي الكبير مكانة، البريء من الغرض، الصادق في إيمانه بهذه الأمة، المخلص في إرادته الخير لأهله العرب جميعاً، صغيرهم الجريح في لبنان، وأوسطهم المحاصر بالمرارة والرغبة في تأكيد القدرة بعد خسارته اللبنانية في سورية، مع الاعتذار مرة أخرى عن هذا التوجه العلني إليكم، يا خادم الحرمين الشريفين، لكن الضرورة قضت بهذا الخروج عن أصول المخاطبات، والضرورات تبيح المحظورات، وعندنا كل الثقة في رحابة صدركم وفي حسن تفهمكم لقصدنا... والله من وراء القصد. والكلمة لكم، من قبل ومن بعد، وقدركم أن تتحمّلوا مسؤولية العهد، إن العهد كان مسؤولاً. والسلام عليكم، أيها الملك العربي الكبير، ورحمة الله وبركاته.