معرض بيروت للكتاب العربي والدولي لهذه السنة، كان من أهم مجسات الحراك السياسي والثقافي للبنان في هذا المضطرب العصيب، فقد باع الناشرون فيه أضعاف ما باعوه في السنوات السابقة، ومعظم الشارين من اللبنانيين أنفسهم، وهذا وحده يكفي كي تقيس مزاج الناس الثقافي وإقبالهم على الحياة. أراد القيمون على أمر الثقافة من المعرض ان يكون مؤشرا على عودة بيروت عاصمة من عواصم الثقافة العربية الأكثر أهمية، فجاءت الضربة الموجهة الى مؤسسة النهار بمثابة الرد على تلك الطمأنينة المتسترة على قلق وخوف وتهديد. في اليوم الرابع من المهرجان، صمت معرض الكتاب ولفه الوجوم، فقد قُتل جبران تويني، وريث مؤسسة النهار العريقة والمرشح لمستقبل يربط العمل الصحافي بالسياسية على نحو لافكاك منه. تبعثرت حكاية جبران وتوشحت دار النهار بالسواد، وتحسس الصحافيون رقابهم، وبدا الذعر واضحا في أحاديث المثقفين وكتاباتهم. والحق أن بمقدورنا قراءة الصراعات الثقافية للبنان من خلال هذا المعرض، فهناك تضارب في اتجاهات دور النشر المتنافسة، فمقابل الأكشاك التي تقدم إصدارات وشعارات الإسلام السياسي الراديكالي، مثل حزب الله وحماس وسواهما، نجد دورا تعرض الثقافات العابرة للقارات والمشجعة للحوار مع أميركا والغرب. ومقابل الدور التي ترعى الفكر العروبي، والآخر الماركسي، هناك العروض الليبرالية التي تهتم بكلاسيكيات الفكر العالمي الحر، وهذا من الممكن أن تجده في كل معرض، ولكن في بيروت تجد تجاورا لايستبطن الإلغاء، لسبب بسيط وهو ان التوازن محسوب على قدر الموت والحياة، فما من رابح في أية معركة، وكل المعارك تبدأ فكرية. لعل المتأمل في ظاهرة ثقافية مثل هذه، يدرك إنبعاثا للفكر الديني المسيحي والاسلامي معا، وهي ظاهرة عالمية لاتخص لبنان وحده. من يتجول في الأجنحة والأكشاك، ستعود به الذاكرة الى بيروت الماضي، فهناك الكثير من المؤسسات التي تكاد توّدع زمنا كانت فيه ممن أسهم بجدارة في صناعة الثقافة العربية الحديثة، ولعل نوع الحضور الحالي يؤشر الى تلك الخاتمة المتوقعة. دار عويدات واحدة من تلك الدور المهمة، فعبر ترجماتها وإصداراتها التي عاش عليها الطلبة ردحا من الزمن، كانت هذه الدار تكسب احترام القارئ وثقته لفترات طويلة. دار العلم للملايين التي اشتهرت بمعاجمها وقواميسها الثمينة، ودار الآداب التي رعت الرواية، والفارابي التي تابعت الحركة الفكرية العالمية. تلك المؤسسات وغيرها تعرض بضاعتها القديمة والحديثة، وفي كفاحها من أجل الاستمرار، تحاول الخروج عن نمطية شخصيتها والاحتفاظ بزبدة الإنجازات الاولى، فدار الفارابي التي عرفت بيساريتها، مازالت تعرض مستجدات الفكر العالمي المترجمة دون أن تحبس نفسها في خيارات الماركسية. بقية الدور القديمة وبينها عوديدات تبدو وكأنها تودع تاريخها الجميل، فتضع في الواجهة سلسلتها الضاربة «زدني علما» ومجموعة الترجمات والمؤلفات القديمة. في الجانب الآخر نشهد في ركن غير منظور أحد الاكشاك الذي يبيع الكتب المدرسية ووصفات الطبخ وتكنولوجيا الفضاء، يعرض مسرحيات وروايات سارتر وكامو، وأدب عصرهم.الأغلفة ذاتها والطبعات الاولى، الماضي الثقافي يجاور الحاضر ولكنه يعلن خاتمة المطاف، وما تلك إلا ثمالة الكأس. الثقافة الانكليزية في هذا المعرض تكاد تنافس الفرنسية أو تكتسحها في عقر دارها، فهناك حشد من الإصدارات البريطانية والأميركية التي تتفوق من حيث الكم على سواها باللغات الأخرى وبينها الفرنسية. لبنان الذي ينضوي تحت لواء الفرنكوفونية، يُقبل شبابه الآن على الانكليزية في التعلم والقراءات والبعثات على نحو يكاد يكتسح أحد مواقع لغة مولير المهمة في العالم، ولكن معرض الكتاب الفرنسي الذي إقيم ببيروت الشهر المنصرم، وشهد إقبالا جيدا يبقي لهذه اللغة ومحبيها في لبنان مكانة خاصة. المطبوعات الأبرز للمؤلفين العرب في هذا المعرض هي في ميدان الرواية والسيرة الذاتية. وهناك اهتمام بالأماكن والمدن العربية، ولعل شغل الذاكرة والتوثيق من بين الاتجاهات الواضحة التي يلحظها المتجول، فبين الماضي والحاضر يتنقل المؤلفون ليستعيدوا تواريخهم وذكرياتهم. وفي الموضوع السياسي، يبقى الحدث العراقي يتكرر في الكثير من الأكشاك: الحرب وشخصية صدام حسين وحياته والغزو الأميركي ومصير العراق، شاغل الكّتاب الأجانب والعرب اليوم، وفي هذا الطوفان من التأليف عن العراق، قد تجد كتبا لافتة وقد لا تجد، فبعضها يدرج في باب المقالات الصحافية التي يقتات كتابها على الموضوع العراقي الذي أصبح شغل من لاشاغل له. في زحام الأيام الأولى، سيكتشف المعاين ان المطبوع لم تهن مكانته رغم اكتشاف عصر جديد من القراءة هو تكنولوجيا الكومبيوتر والانترنيت، ولكن الظاهرة اللافتة، هي رواد المعرض أنفسهم، فأكثرهم من الجيل الشاب الذي يقتني الكتاب العربي وينقب عن الجديد والمثير للاهتمام. بيروت في هذه الفعالية تعلن عن نفسها دون مشاركة عربية فاعلة، فدار مثل «مدبولي» المصرية تنزوي في ركن ولا تتقدم الى الواجهة، فهي تعرض في حيز صغير تتكدس فيه كتبها، في حين تحتل الساقي ودار رياض الريس والنهار وغيرها واجهة العرض. ومن الصعب ان نكتشف فعالية الدور المغربية مثلا او السورية او الاردنية، وعدا دار «المدى» لن نجد دارا عراقية أخرى. الكثير من الأجنحة الرسمية العربية تساهم في هذا المعرض، وهي أجنحة من النادر أن يتوقف عندها الشارون. ومع ان جناح العربية السعودية قد ازدان بمطرح خيمة وملابس وأكسسوارات بدوية، غير انه لم يجذب الشباب إلا المهتمين بالدرس الديني. في عدد من الأجنحة تبرز بوسترات مجموعة من الذين اغتيلوا خلال الفترة المنصرمة، وستجد على الطاولات كتبهم وصورهم وإشاراتهم، وفي المقدمة منهم رفيق الحريري الذي يقام المعرض في ذكراه، وسمير قصير الذي تفرد لكتبه وصوره مؤسسة النهار زاوية في الواجهة، وجورج حاوي الذي يعرض احد الأكشاك كل ما يتعلق به من كتب ألفها أو كتبت عنه، ومجموعة كبيرة من صوره ومقابلات ومساهمات وحاجيات ترتبط بتاريخه النضالي، ويتوسط العرض جهاز تلفزيون يكرر مقابلته التي أدت الى قتله. المعرض يبدو وكأنه مسكون بأرواح من قتلوا غيلة، فغسان كنفان لديه جناح يعرض كل مايتعلق بمسيرته ككاتب وصحافي ومناضل، ولكن جناح كنفاني يختلف عن أجنحة المقتولين الجدد، فهو لايعرض إلا قلة من صوره المطبوعة على اصداراته، ولا يشير الى حادثة اغتياله. بمقدورنا القول إن هناك تنازعا بين رغبة الإعلان عن عودة بيروت الى نشاطاتها السابقة وبين الخوف من الموت، الاغتيال الذي يشعر الكثير من الكتاب والصحافيين انهم مهددون به. دار النهار فقدت عضوين من أسرتها في فترة متقاربة، فتضاعف حزنها، وبعد ان كانت صورة سمير قصير تحتل واجهتها، أصبحت صورة أخرى تتناثر على طاولتها، صورة جبران تويني. الكثير من الفعاليات والندوات التي نظمها المعرض فقدت ألقها، بعد حادث اغتيال تويني الذي اخترق فرح هذه التظاهرة الجماهيرية، ولكن فعالية الاحتفاء بالشاعر شوقي بزيع، كانت من بين النشاطات التي استعاد الجمهور عبرها قوة حضوره، فقد توجت عمرا لهذا الشاعر الذي غنى للجنوب والمقاومة ولبنان والنساء. حضر صموئيل شمعون الى المعرض مع كتابه «عراقي في باريس» الصادر بالعربية عن دار الجمل، فاحتفى به أصدقاؤه بأمسية في الجامعة الاميركية، حيث تكلم عباس بيضون وإسكندر حبش عن هذا العمل، وانتهى الحفل بالذهاب الى مقهى جدل بيزنطي حيث قرأ شمعون بعض نصوصه في جو صداقي. اللبنانيون دعوا محمود درويش وعزمي بشارة، من بين قلة من العرب الذين حضروا المناسبة، فلم يعتد لبنان على ميزانيات صرف تغطي تكاليف الضيافة، وتفضل الدور التي تدعو المؤلفين للتوقيع على كتبهم، استضافتهم ليوم او يومين. انتهت الاحتفالية بمحمود درويش على نحو غير متوقع، في حين كان عزمي بشارة أكثر حظا منه، إذ صادفت ندوته بعد يومين من إغتيال تويني، وحضرها جمهور مهتم بالقضية الفلسطينية، ويعتبر بعضهم عزمي بشارة عضو الكنيست الاسرائيلي، أحد المفكرين الفلسطينين المهمين، فهو كاتب إشكالي، يجمع الخطاب الرديكالي والفعل البراغماتي في سلة واحدة. محمود درويش: لقاء بيروت الحزين حضر محمود درويش الى بيروت لتوقيع أعماله الكاملة الصادرة عن دار رياض الريس، وكان من المقرر أن تجرى له أمسية يحضرها جمهور كبير. محمود درويش لم يمكث سوى أيام قليلة، رغم ماكرره في الصحافة من عشقه لهذه المدينة التي خصها بقصيدة بعد ان غادرها في الثمانينات. كانت تلك من غرر قصائده التي تناقلتها الركبان حسبما يقال بلغة العرب. الزيارة لبيروت اختصرت مسرة اللقاء. ففي اليومين الاولين من افتتاح المعرض ضجت الأروقة والأكشاك بالبيروتين التواقين الى القراءة، ولكن محمود درويش لم يكن قد وصل بعد. في اليوم الثالث وصل درويش، لكن القاعات تكاد تكون خاوية. كان من حظ بيروت ان تتطفل المفخخات على الحياة اللبنانية، فتجللت المدينة بالحزن والذهول، ونسيت في حومة الصدمة ضيفها المنتظر.تقاطر محبون ولكن قلائل على منصة الكتاب في دار رياض الريس. وجلس محمود درويش يوقع النسخ القليلة لمن وجد في نفسه قدرا من العزم على تجاوز وقع الفاجعة، وحسب مصادر الاصدقاء، حضر حفل توقيعه السنة الماضية الآلاف، ولم يتجاوز عدد الحضور هذه السنة الثلاثمئة. إضطر درويش الى إلغاء أمسية الشعر، وربما آماس أخرى للقاءات كانت منتظرة. طوى الشاعر شراعه قبل أن يتسنى له الحظو بقدر من الامتاع والمؤانسة مع المدينة التي يعشق.