في وقت يمر فيه الإسلام بمرحلة عصيبة، يحاول فيه بعضهم تشويه صورة هذا الدين الحنيف بأعمال ندد بها كتاب الله وسنه رسوله محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وفي خضم مساعي الكثيرين ممن يريدون خلق فتن بين الديانات، وصراع بين الحضارات، عبر استغلال الأحداث الجارية في الوقت الحاضر إعلامياً، لاظهار أن الدين الإسلامي دين عنف وإرهاب، وازاء الصمت المستهجن لكثير من المسلمين لجهة نفض الغبار العالق بصورة الإسلام، وتبرئته مما الصق به بهتاناً، كان وجود أحدهم للدفاع عن ديننا السوي، وتعريف غير المسلمين به لأمر مهم وضروري، لا سيما إن كانت هذه الشعوب لا تنطق العربية، ولا يمكنها تحري الحقيقة بواسطة قراءة القرآن الكريم. وهو ما يستلزم مؤمناً قوي الحجة، عالماً بأحكام دينه، وسطياً في فهم معانيه، كي تصل رسالة التبليغ في أجمل معانيها إلى غير المسلم. هذا من المنطلق، كان لنا حوار مع دكتور فيصل الفريدو ميلوزي، مؤسس هيئة الاتحاد الأوروبي الاستشارية، ووظيفتها فتح قنوات الاتصال بين الديانة المسيحية والإسلامية في مختلف مجالات الحياة، وهو أيضاً سفير المنظمة الإنسانية للتقارب بين الأمم والسلام بين الحضارات، ومقرها جنيف، كما يشغل منصب رئيس المركز الإسلامي الإيطالي - العربي، إضافة إلى أنه مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي، وعضو مجلس شورى مدينة جنوة. هو في عبارات موجزة، أحد المسلمين الذين يحتاجهم المجتمع الإسلامي في الظروف الراهنة، ونموذج حي للشخصية الداعية بلسان غير عربي، والمحاجج البليغ في حلقات النقاش العالمية حول الإسلام. اعتناق الإسلام تعد قصة إسلام فيصل الفريد ميلوزي أبلغ تأكيد لقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} فأحداثها تتراءى كالمعجزة، وقد صدق ربي إذ قال {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}، وها هو سبحانه وتعالى يختار نجلاً يافعاً لواحدة من أرقى عائلات مدينة «جنوة» الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط والمتاخمة للحدود الإيطالية - الفرنسية، وهو الذي تخرج في مدرسة مسيحية يشرف عليها مجلس رهبان المدينة ليكون المدافع عن صورة الإسلام في هذا الجزء من العالم. رحب بنا ميلوزي في مكتبه بمدينة جنوة، واستهل كلامه حول بداياته مع الإسلام قائلاً: «كنت أدرس في المدرسة الدينية، التابعة لمجلس رهبان المدينة، وأذكر أني كنت في السادسة عشرة من عمري، حين بدأت أتساءل حول أمور دينية شتى، من مثل: لماذا هناك أديان ثلاثة؟، وهل الجنة لنا نحن المسيحيين فقط؟ وهل سيدخل المسلمون واليهود النار؟ وغيرها من الأسئلة التي لم أجد لها جواباً في ذلك الوقت». يصمت ميلوزي برهة ثم يضيف «بعد حصولي على الشهادة الثانوية، سافرت إلى بريطانيا لتعلم اللغة الإنكليزية، وقد التقيت هناك بطالب من السعودية، هو عبدالله بن فيصل آل رشيد، الشخص الذي سخره الله عز وجل ليكون سبباً في هدايتي إلى الدين الحق، وأذكر أنه قال لي «المسيح ليس ابن الله، الله ليس له ولد، المسيح عيسى نبي، ومحمد نبي»، وقد صعقني كلامه هذا واستهجنته كثيراً في ذلك الوقت، فالتعاليم النصرانية تقول إن عيسى ابن الله، ويقول إن الله ليس له ولد، كما إني اكتشفت أن المسلمين يؤمنون بعيسى، كما يؤمنون بمحمد، فأخذت أفكر في أن الإسلام هو مكمل للمسيحية وليس خصيمها، ولكن تلك الأفكار ما لبثت أن تلاشت عندما انتهيت من دراسة اللغة الانجليزية وعدت إلى إيطاليا. وفي عام 1989م سافرت إلى بريطانيا للسياحة، وشاءت المصادفة أن التقي نفس الشخص الذي اخبرني لأول مرة في حياتي أن عيسى نبي وليس ابن الله، وسبحان الله، إذا وضع عبدالله مرة أخرى في طريقي، ولكن هذه المرة نشأت بيننا صداقة حسنة، وتواصلنا هاتفياً بعد عودة كل منا إلى دياره، وقد دعاني في أواخر عام 1991 لزيارته في الرياض حيث يقيم، وقد استقبلني أحسن استقبال، وعرفني بأسرته الذين أكرموا معاملتي، على الرغم من كوني مسيحياً، وهو ما بدد الخوف الذي انتابني قبيل الذهاب إلى المملكة العربية السعودية، وكان يحدثني عبدالله عن دينهم، ببساطة وروية، وكنت استمع له بدافع إطلاعي فحسب». يستدرك ميلوزي في حديث: «في ديسمبر عام 1992، هاتفني عبدالله، مخبراً إياي بذهابه إلى مصر، وقد اقترح علي أن نتقابل هناك، وكانت صداقتنا في ذلك الوقت قد أصبحت قوية، وشعرت بافتقادي لرؤية هذا الرفيق عاماً كاملاً، فقررت السفر لملاقاته، وهناك في القاهرة وبالتحديد في فندق سميراميس، رأيت عبدالله وهو يصلي، واكتشفت إني أطلت النظر إلى صلاته، والتمعن في كيفية أدائه لها، وأذكر وقتها إني طلبت منه أن أقرأ القرآن، فأجابني بأن علي أن تتعلم اللغة العربية أولاً، وهو ما حدث بالفعل، فما أن عدت إلى وطني، حتى التحقت بمعهد لتدريس اللغة العربية، وقد حفظت «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، وفهمت معناها حرفياً بلغتي الإيطالية، ولكني استطعت استيعاب أن لا إله إلا الله، دون أن أفهم مدلول «محمد رسول الله». يواصل دكتور ميلوزي حيثه قائلاً: «لاحقاً وفي إحدى الليالي، وداخل حجرتي الخاصة بمنزل عائلتي، استيقظت عند الساعة الثالثة صباحاً، وأنا أركع وأسجد دون أن أبرح سريري، ودون أن أفهم ما الذي دفعني إلى فعل ذلك، وقد استغربت لما حدث، وظللت أتساءل، لماذا ركعت وسجدت وأنا لست مسلماً؟! وما الذي دفعني لفعل ذلك؟!، وقمت بمخابرة عبدالله عبر الهاتف، وأخبرته بما حدث، فهو المسلم الوحيد الذي أعرفه، فرد علي بأن ذلك خير، ودعاني إلى ضيافته في قصره بالرياض، فاستجبت لدعوته». «سفريتي هذه كانت منعطف حياتي» هكذا أضاف ميلوزي مستدركاً «كانت هذه المرة الثالثة التي أنزل فيها ضيفاً عند عبدالله، وقد أصبحنا نعم الصديقين، وكان الجميع يعرفني هناك، وبت لا أشعر بأي خوف أو غربة وأنا في قصره وبين أهله، وبعد مرور عدة أيام، قال لي عبدالله «لماذا لا ترافقني إلى المسجد؟»، فأجبته مباشرة: لماذا؟، وقد شعرت برهبة عارمة، وتخيلت نفسي بين المسلمين، الذين سوف يقتلونني ما أن أطأ محرابهم، وهذا شعور طبيعي نتيجة لما يبثه الإعلام في الدول الغربية، ولكني عدت ففكرت بصديقي، الذي جعلني أشعر بالأمان في رفقته، وقد وجدت فيه صورة المسلم المعتدل، وهنا أجد نقطة هامة جديرة بالذكر، لم التفت إليها إلا بعد أن أصبحت مسلماً، ألا وهي أن صورة المسلم التي جسدها عبدالله، كان لها أكبر الأثر في اعتناقي للدين الإسلامي، حيث تعامل معي بلطف وبدون تشدد، وهو ما جعلني أشعر بالأمان وبحب معرفة دينه، وأعتقد أنه لو قابلني أحدهم وعاملني بتشدد وقسوة، وعرفت أنه مسلم، لكنت على الفور ربطت بين شخصه ودينه، وهكذا تصبح فكرتي سيئة للغاية حول الإسلام، وتمعني الرهبة من الاقتراب منه أو ممن يعتنقونه، ولكن عبدالله وأهله كانوا حكماء في التعامل معي وفي ادخال هذا الدين إلى جوفي وعقلي بانسيابية مرهفة، وهو ما يجب أن يتحلى به كل مسلم ولا سيما الدعاة منهم». يصمت ميلوزي ثم يضيف «خلاصة القول رافقته إلى المسجد، وفعلت ما يفعلون، من قيام وركوع وسجود، وقد كانت لدي خلفية جيدة حول تلك الحركات، من كثرة ما شاهدت عبدالله في لقاءاتنا يؤدي فريضة الصلاة. بعد خروجي من المسجد، أحسست أن هناك أناساً حولي ولكني لا آراهم، وشعرت بأحاسيس غريبة. تلك اللحظة لا أستطيع وصفها، ولكن عندما عدت للقصر، أخذت أدعو ربي قائلاً «يا رب، إن كنت الله ربي فعلاً أعطني علامة، وسأفعل ما ترشدني إليه، وقبيل أن أخلد إلى فراشي، قمت بصلاتي المسيحية، وفجأة شعرت بأحد ينخزني في ظهري، وقد تسمرت في مرقدي، وخفت أن التفت إلى الوراء، وهو ما زال ينخزني بقوة وسمعت صوتاً يقول لي «لماذا تصلي صلاة النصارى؟»، وقد مت رعباً وتيبست مفاصلي من الفزع، استيقظت في اليوم التالي، ونطقت الشهادتين، فقد دعوت ربي أن يريني علامة، والتزمت في دعائي أن استجيب لأوامره». يصمت برهة وقد فاضت عيناه واحمرتا وأحسست أثناء الحوار أنه على وشك البكاء، ولكنه تماسك وأردف «الحمد لله، لقد من الله علي بأن جعلني مسلماً». أسرته وموقفها من إسلامه وعن سؤالنا حول موقف عائلته من اعتناقه الإسلام يجيب الدكتور فيصل «عندما أسلمت، أقلعت عن الشرب، وقطعت علاقتي بصديقتي، وأصبحت لا أخرج إلى المراقص أيام العطل الأسبوعية، وهكذا بدأ سلوكي يثير انتباه أسرتي، ولكنهم لم يعرفوا شيئاً، وفي ذات يوم، وكعادتي بأن أغلب باب حجرتي كي أصلي، أخذت أمي في قرع الباب بقوة، وهي قلقة حول ما أفعله، وعندما انتهيت من صلاتي، فتحت الباب لها، فقالت لي ماذا حدث لك؟، كأنك أنت لست أنت، لقد تغيرت ثلاثمائة وستين درجة، وبتنا لا نعرفك، ماذا أصابك يا ولدي؟ ولماذا أصبحت كثير الانغلاق على نفسك داخل غرفتك؟. شعر تلك اللحظة أن علي أن أخبر أهلي، فهم يعتقدون أن مصاباً قد حل بي وقلقين للغاية علي، الكل بلا استثناء والدي، أقاربي، أصدقائي، فأجبت أمي قائلاً: «لقد أصبحت مسلماً»، فلم تأبه لذلك من منطلق تفكيرها أن تلك نزوة شباب ما تلبث أن تنقشع، كحال غيرها من النزوات، ولكن الموضوع بدأ يأخذ منحى جدياً، حين مر الوقت وأنا والحمد لله لا زلت على دين الإسلام، ووصلت نيران غضب أسرتي أوجها، حين حل رمضان، وكان أول رمضان يمر علي وأنا مسلم، وكان لابد من أدائي هذه الفريضة، وهنا بدأ القلق الحقيقي من جهة أهلى على ولدهم، وأخذوا يقولون لي «هل أنت مجنون؟ كيف لك أن تصمد 12 ساعة بدون شربة ماء، وأخذوا يشحذون كل طاقتهم في محاولة لردعي عن اتمام صيامي، وكنت دوماً هادئاً في التعامل معهم، صابرا على سيل المشاكل التي يفتعلونها بسبب إسلامي، وقد قاموا بأشياء عديدة، منها على سبيل المثال، أذكر أني استفقت ذات ليلة، فوجدت والدتي ترشني بماء يسمى «الماء المقدس»، حيث أحضرته من الكنيسة لتطهيري من الشيطان، كما خيل لها، وقد استشاطت غيظاً ولكني كظمت غيظي، فأهلي يرشوني برذاذ الماء لتطهيري من الشيطان، وما عرفوا أن الشيطان معهم وليس معي». وقد ظللنا والحالة هذه، سبعة أعوام، أتعامل بالحسنى مع والدي، وأصبر على جفائهم لي، وقد صبر رسولنا الكريم على فيض من الأذى أثناء تلبيغه الرسالة، والحمد لله هدأت الأمور، ووضعت حرب أهلي أوزارها، وتركوني وشأني، وأنا لا أزال باراً بهم ومستظلاً بكنفهم إلى أن تزوجت. وقد اعترضوا على زواجي من امرأة عربية مسلمة ومحجبة، ولكن في النهاية رضخوا لأمر الله، وأعيش الآن في منزلي بالقرب من مزل العائلة، وأمورنا كلها طيبة وبخير والحمد لله. الإسلام في إيطاليا حول الإسلام في إيطاليا، وما يواجهه من صعوبات في تطبيق شعائره داخل دولة غير مسلمة، تطرق الدكتور فيصل إلى هذا الموضوع بقوله «نحاول على الدوام فتح قنوات حوار مع أبناء جلدتنا لتعريفهم بماهية هذا الدين، شارحين لهم عبر الحوار الهادف، إن ما يبث في وسائل الإعلام ما هو إلا صورة مشوهة بالمعنى الحرفي عن اسلامنا السمح، والحمد لله أن الحكومة الإيطالية، ممثلة في قياداتها ومؤسساتها، ترغب بشدة في تقريب الهالة بين الديانتين، وتقليل فجوة ما يسمى بصراع الحضارات، ولهذا اخترت كممثل عن المسلمين في مجلس شورى مدينتي، والحال كذلك بتعييني مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي المسيحي». وفي معرض سؤاله عن كيفية تنسيق اجابته عند التطرق إلى مواضيع حساسة وغريبة على المجتمع المسيحي، تثير علامة استفهام كبرى حول الإسلام من مثل تعدد الزوجات، أجاب «هذا سؤال جيد، وربما هو السؤال الأول دائم الطرح، عند إدارة نقاش مع المسيحيين، وأقول لك بصراحة إنني ألجأ إلى الاقناع المنطقي في الرد على هذا السؤال تحديداً، عبر إجراء مناظرة بين المجتمع المسلم وغير المسلم، فبالنظر إلى الإسلام، الزنا حرام، والمنفذ الوحيد هو الزواج، كما أن الطلاق أبغض الحلال عند الله، وقد ساعد تعدد الزوجات على انتشار هذا الدين بسبب زيادة أعداد نسل المسلمين، بينما يحرم التعدد في المجتمعات الغربية، مما يدفع كثيراً من النساء إلى الدخول في علاقات آثمة، بسبب زيادة أعداد النساء دون الرجال، ولكن الأمر ليس تسلية، وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}. وعن الدور المطلوب من المسلمين لعبه على الساحة الإيطالية، يحدثنا قائلاً «تلك المسألة شائكة إلى حد ما، ونواجه فيها صعوبة بالغة، مما يجعلنا نكرر في كل منبر إسلامي، كيف يجب أن نظهر الأخلاق السمحة لديننا في معاملاتنا مع الإيطاليين عبر تعاملنا معهم، إذ إن أول ما يطوف بذهن غير المسلم إذا ما أساء المسلم إليه، هو أن تعامله نابع من عقيدته الإسلامية، وهذا خطأ فادح كثيراً ما نقع فيه. وأصدقك القول إن معظم المهاجرين لإيطاليا من المسلمين، هم شخوص غير متعلمة، وربما لا تفقه شيئاً في أمور دينها، حتى إنه يهالني أحياناً، كيف أن أحد المسلمين لا يستطيع تجويد كتاب الله الكريم، والحقيقة إن المسلمين كثر، لكن المؤمنين يعلمهم الله عز وجل، ناهيك أن الهجرة إلى إيطاليا تعود إلى عقدين فقط من الزمان، وهو ما يجعل الإسلام لا يزال في مرحلة بناء مبدئي، ومقارنة بما وصل إليه المسلمون في دول أخرى من مثل المملكة المتحدة والأمريكيتين. ويقول الدكتور فيصل في كلمة أخيرة يوجهها إلى العرب والمسلمين «يجب أن نتحلى بخلق القرآن، وأن نكون قدوة لغيرنا من البشر، كما أني أقول للمسلمين الذين يعيشون في بلاد عربية ويملكون حق ممارسة جميع شعائرهم، إن ذلك تاج على رؤوسهم، لا يراه إلا من حرم منه، من مسلمين في دول غير إسلامية، لذا أرجو أن تتقوا الله في ذلك وتخلصوا في النية والعمل».