تورَّمتُ بك.. فكتبت إليك.. ( ما أشد براءتي حين توهمت في صغري أني سأفرح حين أكبر، لتعلمني الأيام جيداً أنه ثمة قبائل حزن قد استوطنتي). إلى من يكرر مجيئه إليَّ كل لحظة كمطر استوائي!!.. إلى من كتبتُ به كل أحرفي سأتجرأ اللحظة وأكتب إليه.. إلى الحزن: منذ صغري والأطفال حولي يخبئون في جيوبهم الحلوى المبللة بالفرح إلا أنا كانت جيوبي متورمة بك.. ترتديني قبل ارتدائي لثوبي وتنام على مسامات جلدي لأتنفسك.. كل الأطفال كانوا يجيدون مناداة الفرح.. يطلقون الصفير من أفواههم فيركض الفرح متجهاً إليهم ويطوقهم بالبهجة إلا أنا كلما حاولت ذلك صفعت يدك فمي وألجمتني.. تشاركنا أنا وأنت طويلاً في البكاء المرتبط بعقارب الساعة وحملناه على عاتقنا.. اختلطت دعومنا ببعضها وما زلنا نواصل مشوار بكائنا المرير المضمّخ بالوجع.. بكينا بحرارة.. بصدق.. كصدق صرخة الجنين حين يغادر أمان رحم أمه ويتنفس أكسجين الخطر.. نواصل الجلوس جنباً إلى جنب دون أن نفترق أو نتوه عن بعضنا.. لأدمنك.. ولا شفاء لي من إدمانك كيف لا والدم في عروقي صار لا يجرؤ على الجريان إلا وهو يمسك يدك.. لا عجب إذن إن حَبَلَتْ بك مخبرتي وولدتك على هيئة دموع سوداء ترضع الوحشة وتأكل من يد الليل البطيء والثقيل الوحدة.. أيها الحزن.. من علمك كل هذه القسوة؟! ومن علمني أن أقتاتك بصمت بيني وبين نفسي؟! لماذا كلما امتدت يدي إلى الفرحة سارعت ببتر أصابعي كي أعجز عن الإمساك بها؟! منذ أن عرفتك والبؤس يخترق رأسي ويتلذذ بالتحول في دهاليز روحي.. تنتمي إليَّ كانتماء الحبر إلى القلم.. والورق إلى الشجر.. والمطر إلى السماء.. سيدي الحزن.. كثيراً ما أتساءل بيني وبين نفسي وورقي تُرى متى ستنتهي مدتك؟! ألن تصاب بالعفن وتسكن سلة المهملات بعيداً عني؟! ألن تشيخ فتموت؟! لماذا تمزق أحلامي الجميلة كما يمزق الطفل أوراق الجرائد؟! ولماذا تقتل فرحتي كما يقتل طفل بريء خرج يطارد قطته الصغيرة في الشارع فأصابته رصاصة العدو.. أيها القاسي.. أتذكر جيداً ذات طفولة أن أستاذي قال لي حين بكيت بسبب ضرب مبرح أوقعه عليَّ أحد زملائي: «لا تبك يا بني عش طفولتك ولا تحزن فالمشوار أمامك طويل فالطفولة بكل آلامها ذكرى جميلة، فقط حين تكبر ستدرك ذلك جيداً فلا شيء أقسى من يد الحياة حين تصفعك».. لا شك أن أستاذي لم ينطق بتلك الكلمات إلا من وجع يختنق بداخله.. ربما سكنْتَه أيها الحزن، فأنت دائماً تحبذ سكنى الأرواح الظاهرة النقية.. أيها المستبد بي.. أنام وأصحو وأنا مدجج بسنوات من الأسى واليأس.. ملغمٌ بالألم.. تتراكم بداخلي شظاياك الصامتة غير القابلة للانفجار والخروج فقط قابلة للتمدد داخل روحي.. يخال إليَّ أحياناً أنك بلا نهاية كسلالم الأحلام الملتوية والتي لا تنتهي أبداً.. أراك تنتزع قلبي وتهصره بيدك.. تشكله على هيئة كرة ثم تحفر حفرة وتملأها بالجمر الأحمر المتقد وتقذف بقلبي في دركها الأسفل.. تدفنها جيداً حتى لا يشْتَم الآخرون رائحة احتراقه.. أيها الحزن.. قرأتك حرفاً حرفاً.. حفظتك نقطة نقطة.. جعلت من روحي قلعة منيعة الحصون يستعصي على السعادة اقتحامها.. ماذا تريد مني بعد كل هذا؟! قادم إليك من ذروة الاحتضار.. أرجوك اتركني.. أريد أن أدرّب روحي على الفرح بعد أن شللتني عن ممارسته.. أيها الحزن.. أبعد سوداويتك عن حرفي.. وانتشل جسدك من عالمي.. وأشفق عليَّ من سياطك التي أدمتني.. ارحل بأنفاسك المملوءة بالرماد.. أقلع فمطاراتي سئمت وجودك.. ألم يقولوا حق الضيف الإكرام ثلاثة أيام؟! أكرمتك عمراً بأكمله.. ألا يحق لي أن أنعتق منك؟! هلاَّ رحلت؟ خاتمة كلماتي المخنوقة بعبراتي: إلى حروفك مع التحية.. إلى الحاء:.. لا أريدك صدراً للحزن بل أريدك ذيلاً للفرح.. إلى الزاي:.. سارعي بالزوال!! فقد سئمتك!! إلى النون:.. اخلدي إلى نوم أبدي وانسي أنك تقبعين داخل جسد كلمة تُدعَى حزن.. أيها الحزن.. كيف أتخلص من مجزرتك التي أقمتها بداخلي؟! أنا لا أريد منك شيئاً.. وليس لدي ما أرشوك به لترحل سوى بعض حروف تترجم وجعي وتتوسلك الرحمة.. ماذا تنتظر؟! ضع حداً لكل هذه القسوة!! من فضلك ارحل.. وأغلق الباب خلفك جيداً..