قال تعالى: {الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً.. الآية}. الكلمة اليونانية «كسموس» تعني النظام وهي مستنتجة في الأصل من الحد الذي يعني أن تغزل الخيط بالخيط لتنتج قطعة قماش كاملة الدقة وذلك بوضع كل خيط في مكانه الصحيح. فالكون هو كسموس لأنه مغزول بطريقة غاية في الجمال والنظام كل جزء منه موضوع في مكانه الصحيح كما يجب. قال تعالى: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}. في سنة 1946م كتب المسرحي والناقد الاجتماعي جورج أورويل بأنه: لكي يرى الإنسان أمام أنفه يتطلب ذلك مجهوداً مستمراً. هذه الكلمات تصف وصفاً ملائماً عمل الكسمولوجيا الحديثة. فالكون حولنا ونحن جزء منه ومع ذلك نضطر أحياناً أن ننظر إلى مسافات بعيدة لكي نفهم ما يجري على الأرض. على الرغم من أن الباحثين يعتقدون ان المبادئ الأساسية للطبيعة بسيطة إلا أن استنتاجها هو أمر ليس بالبسيط. لقد عرف الفلكيون منذ سنة 1929م بأن الكون المرئي يتمدد وذلك عندما اكتشف الفلكي الأمريكي ادموند هبل في تلك السنة بأن المجرات البعيدة تتباعد عن بعضها البعض. هذا التمدد ليس كما يتخيله البعض بأنه تمدد في فضاء موجود مسبقاً. فالفضاء يوجد مع التمدد. هذه الحركة إلى الخارج يعاكسها جاذبية المجرات وبقية المادة الموجودة في الكون. منذ أكثر من عقد مضى كان الاعتقاد بأنه يوجد في الكون مادة كافية تقريباً ولكن ليس تماماً توقِف التمدد بحيث يكون الكون حسب المصطلح الهندسي مسطحاً. الكون المسطح هو حالة وسطية بين هندستين محتملتين تسميان: مفتوحاً ومقفلاً حالة الفتح تمثل انتصاراً للتمدد أي ان الكون سيستمر في التمدد للأبد وفي الحالة المقفلة فإن الجاذبية سيكون لها الغلبة. كوننا نعيش في كون مسطح هو أهم ما تتنبأ به ما تسمى «بنظرية التضخم» في الكسمولوجيا والتي تقول بأن هناك فترة متقدمة كان فيها التمدد سريعاً جداً. هذه النظرية وضعت لكي تحل مشاكل في نظرية «الانفجار العظيم» العادية. غير أن المشكلة هو أن المادة المرئية لا تشكل إلا تقريباً أربعة في المائة من ما هو مطلوب لكي يكون الكون مسطحاً. والديناميكا الفلكية تبين أن هناك مادة معتمة لا تظهر بالتلسكوب وهي تمثل تقريباً ثلاثة وعشرين في المائة من ما هو مطلوب لكي يكون مسطحاً. أي أن مجموع المادة الفيزيائية سواء المرئية منها وغير المرئية ليس كافياً بأن ينتج كوناً مسطحاً. فإذاً إما أن يكون الكون ليس مسطحاً وفي هذه الحالة لابد للعلماء من أن يغيروا أو ربما يلغوا نظرية التضخم أو أن الكون مسطح ومن ثم فإنه لا يمكن لمكوناته الأساسية في أن تكون فقط مادة مرئية أو مادة معتمة أو أشعة. أي أنه لابد من أن يكون الكون مركباً في غالبيته من طاقة على شكل أثيري تقطن الفضاء الفارغ. فكرة هذا النوع من الطاقة له تاريخ طويل حيث بدأت عندما أكمل آينيشتين نظريته النسبية العامة قبل عقد من الزمان من اكتشاف هبل بأن الكون يتمدد. لكن هناك مشكلة واجهها آينيشتين في تطبيق معادلاته في الكسمولوجيا وهي أن الجاذبية ليست مثل بقية القوى الأساسية فهي تشد فقط وليس لها دفع ومن ثم فإنها ستنتج كوناً غير مستقر حسب ما فهم آينيشتين من معادلاته. لذا فإن آينيشتين والذي افترض بأن الكون يجب أن يكون ساكناً ومستقراً اضطر إلى اضافة حد كسمولوجي إلى معادلاته الرياضية. هذا الحد يجعل الكون ساكناً ومستقراً وذلك بانتاج قوة بعيدة المدى تعمل عبر الحيز كله بحيث إذا كانت قيمتها موجبة فإنها سوف تمثل قوة طاردة مضادة للجاذبية. مصدر القوى سواء كانت جاذبة أو طاردة هو الطاقة. وكما برهن آينيشتين في نظريته النسبية الخاصة بأن المادة هي احد أشكال الطاقة ولكن حد آينيشتين هذا هو حالة خاصة. فالطاقة المرتبطة به لا تعتمد على المكان أو الزمان ومن ثم يسمى بالثابت الكسمولوجي. القوة الناتجة من هذا الثابت تعمل حتى مع الغياب الكامل للمادة أو الأشعة ومن ثم فإن مصدرها لابد أن يكون نوعاً من الطاقة الغريبة التي توجد في الفراغ. غير أن آينيشتين وبعد اكتشاف هبل لتمدد الكون ولوجود حلول لمعادلاته النسبية العامة بدون هذا الحد الكسمولوجي والتي تتفق مع التمدد الذي اكتشفه هبل اضطر أن يلغي هذا الحد من معادلاته واعتبر وضعه له أكبر خطأ في حياته .. الفيزيائيون كانوا سعداء بحذف هذا الحد مع أنه من الناحية الرياضية وجوده لا يؤثر على المعادلات في النظرية النسبية العامة. غير أن الأمر لم ينته هنا ففي الثلاثينيات من القرن الماضي ظهرت فكرة هذا الثابت مرة أخرى في نطاق مستقل تماماً إذ انه عند محاولة الجمع بين ميكانيكا الكم والنظرية النسبية الخاصة بيّن الفيزيائي باك ديراك وبعده الفيزيائيون ريتشارد فيمان، جوليان شونكر، وسينشيلوا توماناجا بأن الفضاء الفارغ هو أكثر تعقيداً مما نتخيله. ففي الفراغ يمكن للجسيمات الأولية أن تظهر تلقائياً من لاشيء وتختفي مرة أخرى في وقت قصير جداً بحيث لا يمكن قياسها مباشرة ولكن يمكن قياس تأثيراتها. فالسؤال إذاً، هل يمكن لهذه الجسيمات الوقتية والتي تمثل طاقة في الفراغ أن تؤثر ايضاً على تمدد الكون. في سنة 1967م بيّن الفيزيائي الروسي ياكوف زيلدوفتش بأن طاقة الجسيمات الوقتية هذه يمكن أن تعمل بالضبط كطاقة مرتبطة مع الثابت الكسمولوجي ولكن لحساب هذه الطاقة هناك مسألة صعبة واجهها الفيزيائيون النظريون أن النظرية الكوانتمية تتنبأ بطيف كلي لهذه الجسيمات الوقتية يغطي كل أطوال الموجات الممكنة لذا فإنه عندما يضيف الفيزيائيون كل التأثيرات هذه فإن الطاقة الكلية المحسوبة تصبح لا نهائية وحتى لو أن النظرية أهملت التأثيرات الكوانتمية التي أصغر من طول موجة معين والتي تأثيراتها الكوانتمية الجاذبية على أية حال غير مفهومة فإنه لاتزال طاقة الفراغ المحسوبة كبيرة جداً أكبر بواحد مقابله مئة وعشرون صفراً من مقدار الطاقة المحتواة في المادة المرئية وغير المرئية وبالتالي فإن تأثير هذا الثابت الكسمولوجي حسب هذه الحسابات سيكون ضخماً جداً. وما قاله المسرحي اورويل سيكون حرفياً ما يحدث بحيث لو نظر الشخص إلى يده فإن المسافة بين يده وعينيه سوف تتمدد بسرعة عالية بحيث لا يمكن للضوء بأن يصل للعين. حقيقة أننا لسنا فقط نرى الأشياء أمام أعيننا ولكن نرى إلى مسافة بعيدة جداً في عمق الكون يعني أن طاقة الحيز الفارغ (الثابت الكسمولوجي) لا يمكن أن تكون كبيرة. فالفرق بين النظرية وما هو ملاحظ في الواقع كبير جداً وهو أغرب لغز عند الفيزيائيين النظريين اليوم. أبسط حل لهذا هو أن يُؤمل بأن يكون هناك قانون فيزيائي لم يكتشف بعد يجعل هذا الثابت الكوني يختفي. ولكن ومع رغبة النظريين بأن يذهب هذا الثابت إلا أن بعض الحسابات الفلكية مثل الوقت المستغرق منذ بداية الانفجار العظيم، كثافة المادة وطبيعة التكوين الكسمولوجي تقترح وجود مثل هذا الثابت. ليس هذا فقط ولكن في سنة 1998م استنتج فريقان من الباحثين عند رصدهما للسوبرنوفا البعيدة بأن تمدد الكون لا يتباطأ وانه ربما يتسارع. لا يمكن لهذا التسارع إذا ثبت بشكل قاطع أن يُفسر إلا بوجود ثابت كسمولوجي. أكثر الحسابات الكسمولوجية تعتمد على ما يسمى بثابت هبل المشهور وهو الثابت الذي يربط بين مسافة المجرة وسرعتها بحيث كلما ازداد بُعد المجرة زادت سرعتها. التقدير الأولي الذي قدره هبل لهذا الثابت هو خمسمئة كيلومتر لكل ثانية لكل ميجابارسك (الميجابارسك تساوي ثلاث مائة وثمانية مقابلها سبعة عشر صفراً كيلومتراً). هذه القيمة تعطي الوقت منذ الانفجار العظيم بحوالي بليوني سنة أصغر بكثيرمما يجب أن يكون. على مرور العقود السبعة الماضية حسّن الفلكيون والكسملوجيون من رصدهم وتقديرهم لثابت هبل. الفلكية الأمريكية وندي فريدمن من مرصد كارنجي وزملاؤها رصدوا قيمة لهذا الثابت تتراوح بين خمسة وستين إلى واحد وثمانين كيلومتراً لكل ثانية لكل ميجابارسك. هناك محاولات عديدة لتقدير هذا الثابت نظرياً تتفق مع ما هو مرصود وذلك بوضع فرضيات فيزيائية مختلفة للثابت الكسمولوجي. مثلاً في مقالة علمية نشرت سابقاً لكاتب هذا المقال وباستخدام ثابت كسمولوجي يعتمد على ما يسمى بمقياس ركي ومشتقاته مع معادلات آينيشتين كانت قيمة ثابت هبل المستنتجة نظرياً تتراوح بين ثلاثة وستين وسبعة وستين كيلومتراً لكل ثانية لكل ميجابارسك. غير أن هذه الاستنتاجات النظرية ليست استنتاجات أساسية. فالفيزيائيون النظريون يعرفون بأنه لا يمكن حل مسألة الثابت الكسمولوجي ومعه كثير من المسائل في الفيزياء النظرية بشكل صحيح إلا بحل مسألة الجمع بين ما يسمى بنظرية «ميكانيكا الكم» والتي غيرت مفهومنا بشكل كبير عن المادة والنظرية النسبية العامة والتي غيرت مفهومنا بشكل عميق عما نعرف عن الحيز والوقت. فالنظريتان لا تبدوان متفقتين في شرح موحد للعالم حولنا، فميكانيكا الكم في شكلها الحالي تعتمد على مفهوم للوقت والحيز يتناقض مع المفهوم الذي تقدمه لنا النظرية النسبية العامة، والنظرية النسبية العامة تصاغ باستخدام المفهوم القديم عن المادة والذي يتناقض مع المفهوم الذي تقدمه ميكانيكا الكم. هناك محاولات كثيرة يشترك فيها أفضل العقول في العالم منذ أكثر من عقدين من الزمن لمحاولة الجمع بين هاتين النظريتين ولكن المسألة مازالت معقدة. فهي تتطلب مفهوماً جديداً للوقت والحيز وربما تفسيراً جديداً لما تعني ميكانيكا الكم، وإلى حديث آخر.. والله الموفق.. قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض.. الآية}. صدق الله العظيم. ٭ قسم الفيزياء - جامعة الملك سعود