الجذر الأساسي لمشكلة اضطرابات المهاجرين في فرنسا يرجع في تقديري الى العامل الثقافي بالدرجة الأولى، انه ينبع من ثقافة أولئك المهاجرين الذين استقروا هناك و حملوا معهم بلاشك زاداً لا يستهان به من ثقافة ظلت بحكم مراكماتها الكمية و النوعية في الوعي واللاوعي الاسلامي مستعصية على محاولات الاندماج الاجتماعي في المجتمعات الأوروبية التي انتقل إليها أولئك من بلادهم الأصلية بسبب القمع السياسي أوالديني أوبسبب العامل الاقتصادي أوبسببها كلها أوبخليط منها، ولكن كيف يمكن هنا القيام بتوصيف ذلك العامل الثقافي الذي اعتبرناه معوقاً أساسياً من معوقات الاندماج ومن ثم بروزه كعامل رئيسي في تلك الأحداث؟ يمكن في تقديري توصيف ذلك العامل باستعراض بسيط لآليات الثقافة الغربية في تحديد مكونات فضاء الحرية الفردية مقابل حرية المجموع، أو بعبارة أفضل، كيفية تحديد التعامل مع ما يعتبر من قبيل الشأن الخاص، مقابل التعامل مع ما يعتبر من قبيل الشأن العام، ومن ثم مقارنة موقف أولئك المهاجرين العرب والمسلمين من ذلك الموقفين اتكاءً على ما يحملونه من زادٍ ثقافي. تقوم الحضارة الغربية - وعلى رأسها الديمقراطية الفرنسية بالطبع - على الفصل التام بين الشأن أو الفضاء الخاص وبين الشأن أوالفضاء العام، الأول يشير الى الحرية الفردية المعطاة للشخص للتماهي مع معتقداته أودينه أومذهبه بممارسة طقوسها وحرية التعبير عنها واستغلال كل ما يمكن أن يحسب على أنه داخل في ذلك الفضاء الخاص، بحيث أن ذلك كله مكفول للجميع ومحمي بواسطة القانون باعتبار أن الدين علاقة روحية شخصية بين العبد وخالقه لايجوز لأحد أن يتدخل فيها ما دام التماهي مع تلك العلاقة بكل متطلباتها وطقوسها يتم في حدود القانون الذي يطلب من الشخص المتماهي مع عقيدته أن يعترف بذات الحق للأشخاص الآخرين المخالفين له في الديانة أو المعتقد أو المذهب، أما الثاني فهو يشير الى شأن عام ترعاه الدولة ويدخل ضمن مسؤولياتها وبالتالي فالمطلوب منها أن لا تمكِّن اتجاهاً بعينه لأخذ حصة أعلى من اتجاه آخر في استخدام مكوناته أو بنيته الأساسية، بل ان الجميع في هذا المجال متساوون تماماً ويُرفض رفضاً قاطعاً سيطرة رؤية أو ديانة بعينها على ذلك الفضاء العام عن طريق اقصاء غيرها وفرض رؤيتها مهما كان الأمر. هذه الحرية الفردية المعطاة بواسطة القانون لا تحدها حدود الا بمقدار عدم تعديها على حرية الآخرين سواءً مادياً أو معنوياً والذي يدخل فيه بالطبع الاعتراف بذات القدر من الحرية للآخرين للتعامل مع شؤونهم الشخصية ومنها دياناتهم ومذاهبهم وفق ما يريدون، أما فيما يخص الفضاء العام، فالأمر مختلف ولكنه نابع من ذات التوجه الذي يهدف لصيانة الحريات الفردية بقيام الحكومة على الحياد فيما يخص اعطاء الفرص لكافة الأفراد والمجموعات لاستخدام حقها باستخدام أماكن ومؤسسات الفضاء العام، هذا بالطبع ما يفسر قيام الحكومة الفرنسية بسن تشريع وافق عليه البرلمان الفرنسي في فبراير/شباط من العام الماضي بأغلبية شملت مختلف الأحزاب يقضي بمنع كافة الرموز الدينية - ومنها الحجاب الاسلامي والقلنسوة اليهودية والعمامة السيخية والصلبان المسيحية في كافة المؤسسات الرسمية. هذا الفصل الدقيق بين الفضاءين بدا غريباً على معظم المهاجرين الذين ينحدرون من أصول اسلامية بسبب أن ثقافتهم التي تربوا عليها لا تحمل في مكوناتها التأويلية والتفسيرية ما يمكن مخرجاتها البشرية من التعامل الايجابي تجاه ما تتطلبه التعددية في كافة الميادين، ومنها بالذات ما يتعلق بالمسائل الدينية، وهو ما يفسر قيام بعض الجماعات الاسلامية المتمكنة هناك بمحاولات عديدة للسيطرة على توجهات الأفراد المسلمين بقصرهم على اتباع منهجها أومذهبها مما يتنافى تماماً مع الأصل التعددي الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، اضافة الى ذلك وتأسيساً على انعدام ثقافة التعدد لدى أولئك المهاجرين، فان المخزون الثقافي الذي يحمله أولئك فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر المختلف بالدين جعلت كثيراً من العناصر المتطرفة بينهم لا يشيرون الى فرنسا كما يقول الباحث الايراني (أمير طاهري) الا باعتبارها «دار حرب» لأن حكامها غير مسلمين، أما العناصر المعتدلة - وفقاً لنفس الباحث - فتشير الى فرنسا بتعبير«دار الصلح» وهي اشارة الى أنهم اذ يسالمون في فترة معينة، فان ذلك لا يعني أكثر من أنهم يقضون فترة صلح مع الفرنسيين لا تلبث أن تنقضي بمجرد أن تكون الغلبة لهم، اذ أن فترة مكثهم تحت النظام العلماني الفرنسي لا تعدو أن تكون استراحة محارب فقط، يدل على ذلك أن الجماعات الاسلامية هناك - أو على الأقل بعضها - لا تستخدم أية تعابير يمكن أن يفهم منها بأن أفرادها مواطنون فرنسيون قبل أن يكونوا مسلمين، اذ يستخدمون تعابير من قبيل« جمعية مسلمي فرنسا» وهو تعبير أومسمى له مغزاه الذي لا يخفى ، اذ أن التعبير المناسب للاعتراف بالهوية الفرنسية - معظهم لديهم جنسيات فرنسية - يكون مثلاً «جمعية الفرنسيين المسلمين» اذ يتم في هذا التعبير الاعتراف بالهوية الوطنية أولاً وهي الجامع الرئيسي للتقييم في مسألة الحقوق والواجبات المناطة بكل مواطن فرنسي تجاه الدولة وساكنيها، تأتي بعدها الهوية الشخصية المتروكة للفرد لتشكيل علاقته الروحية وفقاً لما يريد وما يتوقع تجاه كيفية خلاصه وتأمين متطلباته الروحية. هذا ما يفسر لماذا كان المسلمون هناك أكثر الطوائف ان لم يكونوا الطائفة الوحيدة التي صعدت احتجاجاتها حتى خارج فرنسا تجاه منع الرموز الدينية في المدارس والمؤسسات الفرنسية، رغم أن قرار المنع شمل كافة الطوائف الدينية، والمشكلة في رأيي أكبر وأعمق من أن تحلها التدابير الحكومية الفرنسية التي أُتخذت مؤخراً والقاضية بزيادة مخصصات الضمان الاجتماعي والتعليم والخدمات الأخرى ، صحيح أن ذلك مطلوب وأكثر منه لزيادة فرص اندماج أولئك المهاجرين في المجتمع الفرنسي، ولكن يبقى المطلب الرئيسي الذي يجب القيام به من جانب المسلمين وحدهم هو احداث ثورة تصحيحية كبرى على مستوى الثقافة العربية الاسلامية نفسها بالعودة الى النصوص المؤسسة الرئيسية والانطلاق منها لتأسيس قاعدة ثقافية تقبل الآخر المختلف وتؤمن بالتعدد في كافة تمظهراته وأشكاله، وتأسيس وعي جديد بأهمية بل وجوب الفصل التام بين متطلبات الحريات الشخصية ومتطلبات الحريات العامة، وقبل ذلك كله اعادة النظر في المراكمات الثقافية التي تأسست في عصور أفول شمس الحضارة العربية الاسلامية ويأتي على رأسها الانطلاق في تشكيل العلاقة مع الآخر المختلف بالدين من مصطلحات معينة تؤسس للآحادية وترفض الحرية الدينية المضمون بنص القرآن الكريم من قبيل «دار الحرب مقابل دار الاسلام» و«المسلمين مقابل الكفار في صيغتها الحدية الفاصلة التي لا تؤمن بحرية العقائد» وهي مستمدة عموماً من نظرية «الفسطاطين» التي تؤمن بها منظمة القاعدة كأساس للعلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الملل والديانات الأخرى، وهي اشكالية في تقديري لا تخص ثقافة مسلمي فرنسا وحدهم بل تمتد لأخاديد الزمن الثقافي العربي برمته. [email protected]