وفي مواجهة هذه الحقائق التي لا يمكن إنكارها نستطيع أن نقول إن المسار الذي اتخذه كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كان دليلاً على عجز هاتين المؤسستين وافتقارهما إلى الكفاءة إذا افترضنا حسن النوايا تقدر الأممالمتحدة أن 3,6 ملايين شخص من بين سكان النيجر، البالغ عددهم نحو 12 مليون نسمة، قد تأثروا بأزمة الجفاف والمجاعة التي تعصف بالبلاد. ومن بين أولئك يعاني 2,7 مليون شخص من وهن صحي شديد ويحتاجون إلى مساعدة غذائية تجنبهم خطر موت محدق، كما يشكل الأطفال والنساء نسبة كبيرة من هؤلاء. لقد توقف سقوط الأمطار فجأة في نهاية العام الماضي، ومن ثم أتى المحصول أقل من المتوقع، وبعد ذلك جاء الجراد ودمر جزءا من المحصول، وهكذا تشكلت الأزمة الراهنة، وأضحت مناطق شاسعة من البلاد لا يملك فيها الناس قوت يومهم.. وقد بات أربعون بالمائة من أطفال البلاد مهددين بسوء التغذية، وهناك طفل من كل أربعة أطفال يموت قبل بلوغ سن الخامسة. ولقد تسببت المجاعة والجفاف في نفاد أعداد كبيرة من الماشية، ونزح عشرات الآلاف إلى المدن والبلدات الكبيرة بحثا عن الطعام. وتعتبر منطقة «مارادي» الأكثر تضررا في الأزمة الراهنة، ففيها يهدد خطر الموت جوعا أكثر من 400 ألف طفل. ويقول الأطباء إن نسبة الأمراض المعدية ازدادت ارتفاعا في الآونة الأخيرة، ولأن أغلب المصابين يعانون نقص التغذية الشديد، فإنهم يفقدون القدرة على مواجهة الأمراض. وتفيد تقارير دولية بأن الوضع الغذائي المتزايد سوءًا للنساء الحوامل والمرضعات يهدد بزيادة معدلات الوفاة والاعتلال النفاسيين، وزيادة معدلات وفاة الرضع واعتلالهم، في المناطق الأشد تأثراً بالأزمة. ولمواجهة هذا التهديد، طالبت منظمات دولية بمساعدة طارئة في مجال الصحة الأسرية لمنع مضاعفات الحمل والولادة لدى مئات الآلاف من النساء الحوامل والمرضعات المتأثرات بالأزمة الغذائية الطاحنة.وتعاني النيجر حالياً من أحد أعلى معدلات الوفيات النفاسية في العالم، فمن المحتمل أن تموت امرأة من كل 7 نساء نتيجة لأسباب مرتبطة بالحمل. ويمكن أن يؤدي ضمان حصول النساء الحوامل والمرضعات على تغذية كافية، وعلى الفيتامينات والمعادن الضرورية، إلى خفض الوفيات النفاسية، والعيوب الخلقية، والوفيات في مرحلة الطفولة، والإصابة بالعمى والأنيميا (فقر الدم)، والإصابة بالأخماج. ويقدر الخبراء أن القضاء على سوء التغذية بين الأمهات الحوامل يمكن أن يؤدي إلى خفض الإعاقات لدى مواليدهن بما يقرب من الثلث. وحسب الإحصاءات الدولية، فان هناك أكثر من 260 ألف امرأة بحاجة إلى رعاية عاجلة، و يقول الأطباء إن حالات نقص فيتامين (أ) وحمض الفوليك والحديد يمكن أن تؤثر تأثيراً بالغاً على النساء الحوامل وعلى مواليدهن، بحيث تؤدي إلى انخفاض وزن المواليد، وإلى تعرّض النساء للنزف والتعفن أثناء الولادة، وبحيث تؤدي في الحالات الشديدة إلى وفاة الرضع ووفاة النساء في مرحلة النفاس. وفي بلد مثل النيجر، حيث لا تتجاوز نسبة التعليم المدرسي الثلاثين بالمائة، تعتبر المساعدات عاملا رئيسيا بالنسبة لعدد كبير من السكان، وذلك من أجل البقاء على قيد الحياة. وتعتبر الزراعة المصدر الوحيد تقريبا. ويعد عدم وجود أية سدود على نهر النيجر مشكلة كبرى، فباستثناء بعض الحواجز المائية البسيطة لا تتوفر الإمكانيات المالية لإنشاء سدود كبيرة لسد حاجات هذا البلد الزراعي، فبمجرد أن تتوقف الأمطار تقرع أجراس المجاعة. وعلى الرغم من أن للطبيعة والجفاف دورا بارزا في الأزمة الراهنة، إلا أن على الإدارات المحلية تغيير سياساتها والحث على إنتاج الأغذية، فالعديد من الأزمات الغذائية هي نتيجة الحكومات الفاسدة والحروب الأهلية، فمنذ استقلال النيجر عن فرنسا قبل ثلاثين عاما وهي عرضة للنزاعات والانقلابات مع سيطرة للأنظمة الديكتاتورية العسكرية، رغم أن النظام الحاكم حاليا هو نظام ديمقراطي. إن الأزمة الراهنة هي الأسوأ منذ عشرين عاما للنيجر ثاني أفقر دولة في العالم، إذ صنفتها الأممالمتحدة في المرتبة ما قبل الأخيرة من مجموع 174 دولة. بيد أن كارثة النيجر الراهنة كان من الممكن تفاديها، خاصة أن وكالات الأممالمتحدة حذرت من وقوعها العام الماضي، كما أن حكومة النيجر كانت قد أصدرت قبل عام من الآن نداء عاجلا للإغاثة، إلا أن الدول المانحة لم تستجب لها. وكان يان ايغلاند وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية قد طالب المجموعة الدولية بسرعة العمل على إرسال تبرعات للحيلولة دون تفشي المجاعة في البلاد. وانتقد ايغلاند قلة المساعدات، قائلا انه لو بادرت المجموعة الدولية بتقديم التبرعات خلال العام الماضي لكان المبلغ المطلوب هو دولار واحد لكل فرد من أجل القضاء على المجاعة القاتلة. أما الآن وبسبب الاستجابة المتأخرة، فقد ارتفعت هذه التكلفة إلى 80 دولارا للفرد، مما زاد الأمور تعقيدا .ولقد شاهدت ايغلاند وهو يتحدث لأحد برامج قناة (bbc) وقد انتابه الأسى من ردة فعل المجتمع الدولي على الأزمة. وبينما تتزايد في وسائل الإعلام الدولية الصور المريعة للأطفال المتضورين جوعًا في النيجر، قد تكون أزمة مماثلة على وشك الظهور في دول أخرى من منطقة الساحل الإفريقي، وهي المنطقة الشاسعة في غرب إفريقيا والمتاخمة للصحراء الكبرى. إن الأزمة التي تضرب غرب أفريقيا، وعلى وجه الخصوص دول الساحل الإفريقي، لا تضرب النيجر وحدها، وإنما جميع الدول المجاورة لها، بما في ذلك بوركينا فاسو ومالي ونيجيريا. وقد تم تحديد أربع مناطق في بوركينا فاسو على أنها تقع تحت تهديد وشيك بنقص الغذاء. وطبقا لبرنامج الغذاء العالمي، فإن الأزمة الغذائية في مالي تؤثر على 2,2 مليون نسمة، أو نسبة 20 في المائة من مجموع السكان. ويعاني قرابة 5000 طفل هناك من سوء التغذية الحادة، كما أن معدلات وفيات الأطفال سجلت أرقاما قياسية في أجزاء معينة من البلاد. وعلى الرغم من وجود فائض غذائي في بعض الدول الإفريقية، إلا أنها لا تستطيع منحها للدول الأقل حظا، وذلك يعود إلى التعرفة الجمركية المرتفعة التي تبلغ 33 بالمائة على المنتجات الزراعية، مقارنة بنسبة 12 بالمائة مفروضة على منتجات مماثلة مستوردة من أوروبا. كذلك، تعتبر إنتاجية الهكتار الزراعي من الغذاء غير كافية لافتقار المزارعين المعدمين إلى بعض، إن لم نقل كل، الأساسيات الأربعة للزراعة الحديثة المنتجة، التي تتلخص في الآتي: المواد المغذية للتربة والسماد العضوي أو الكيماوي، الري أو تقنيات إدارة المياه، والتشكيلة المحسنة من البذور، والنصائح الزراعية السليمة.وتزداد حدة المشكلة في الدول الداخلية (أو القارية) مثل النيجر، والتي تنعزل قراها عن الأسواق بسبب ارتفاع تكاليف النقل، كما تزداد المشكلة أيضاً في المناطق التي تعتمد على الزراعة البعلية. هذا فضلا عن التغيرات المناخية العالمية الناتجة عن زيادة استهلاك الطاقة في الدول الغنية، الأمر الذي أدى إلى تفاقم درجة خطورة وتكرار حالات الجفاف والمجاعة على نطاق واسع ومميت. وتواجه القارة الأفريقية ثلاثة تحديات تجعلها حبيسة الفقر: الأول، أن القارة لا تزرع ما يكفي من الغذاء، فخلافا لآسيا، لم تشهد أفريقيا ثورة خضراء في إنتاج الأغذية. ففي العام 1965 كان متوسط إنتاج الهكتار من الحبوب في الهند حوالي 854 كيلوجراماً، بينما بلغ هذا المتوسط في الدول الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى حوالي 773 كيلوجراماً. ولكن بحلول العام 2000 أصبحت الهند تنتج 2293 كيلوجراماً عن الهكتار الواحد، بينما كانت أفريقيا تنتج 1118 كيلوجراماً فقط. والعامل الثاني لانتشار الفقر، أن أفريقيا تعاني من أمراض قديمة بمستوى قل نظيره في أي منطقة أخرى من العالم. وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يحصد وباء الملاريا حياة ثلاثة ملايين نسمة هذا العام. أما الهند فقد سيطرت على المرض منذ أربعة عقود. والعامل الثالث لانتشار الفقر، ان أفريقيا معزولة على الصعيد الاقتصادي، بسبب البنية الأساسية المتهالكة، والمسافات الشاسعة المقطوعة براً، علاوة على أن العديد من الدول مغلقة، ولا تطل على أية مسطحات مائية. وتتسبب هذه الحواجز الجغرافية في إبقاء مساحة كبيرة من القارة، وعلى نحو خاص المناطق الريفية منها، بعيدة عن الأنشطة الرئيسية للتجارة الدولية. وبطبيعة الحال، تحتاج القرى المعدمة إلى المساعدات المالية لشراء المواد الأولية في الزراعة، والاستثمار في البنية التحتية مثل الطرقات والكهرباء. ولكن بدلاً من ذلك، تصر الحكومات المانحة والبنك الدولي، وتحت غطاء تشجيع استقرار الاقتصاد الكلي، على أن تقطع البلدان الأفريقية المساعدات المالية عن هذه القرى المعدمة.الأمر الذي لا يعدو أن يكون سوى أسلوب مهذب لمطالبة الدول المعنية بدفع ديونها.إنه نهج يعكس الوهم الأيديولوجي القائل بأن زيادة دور القطاع الخاص سوف ينقذ الوضع.ولكن، وعلى العكس من ذلك تماماً، أدت هذه السياسات إلى ترك مئات الملايين من الناس في حالة مزرية من الفقر والجوع وأخيرا الموت. تركتهم دون أي سلاح لمقاومة الجفاف أو استصلاح التربة أو مقاومة الأوبئة التي تفتك بالمحاصيل. والنتيجة، يموت الملايين سنوياً جراء القحط والمجاعة والأمراض التي لا تستطيع أجسامهم المنهكة تحملها. وفي السياق ذاته، يمكن ملاحظة أن قضية ديون أفريقيا المتعاظمة لا تزال دون حل جذري قادر على الحد من معاناة القارة، ولا تزال التحركات الدولية في هذا الاتجاه تتصف بغياب الفاعلية. وللمقارنة، فقد جاء النجاح الذي حققته الولاياتالمتحدة ومبعوثها الخاص وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في إلغاء ديون العراق الخارجية أو إعادة جدولتها كدليل على ما يمكن إنجازه حين تجد المساعي سنداً سياسيا، ولن نجد لهذه الحالة نقيضاً أكثر وضوحاً وأشد تبايناً من حالة ديون أفريقيا. ومن الجدير بالذكر أن كافة الدول الأفريقية الواقعة إلى الجنوب من الصحراء، باستثناء جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي حاليا) اللتين كانتا تحت إدارة حكومات من الأقليات البيضاء، بدت عاجزة عن التواصل مع أسواق رأس المال العالمية عند استقلالها في مطلع الستينيات، كما لم يكن لأسواق رأس المال المحلية في هذه الدول من وجود. وعلى هذا فلم تجد هذه الدول خياراً سوى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتنفيذ عمليات التنمية فيها. ولقد تولت هاتان المؤسستان تحديد وتقييم وتمويل المشروعات التي أدت إلى تراكم ديون أفريقيا بالتدريج. كما تولتا مراقبة والتصديق على استقدام المستشارين الذين تولوا توجيه الدراسات المتعلقة بهذه المشروعات، علاوة على استقدام الشركات الأجنبية التي عملت في تنفيذ المشروعات. وأثناء فترة التنفيذ قام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمهام إشرافية دورية مضافاً إليها تقارير تقدم العمل ربع السنوية والمراجعات المالية السنوية. ولكن على الرغم من كل تلك الإجراءات الباهظة التي تحملها الأفارقة، فقد أكدت كافة تقارير التقييم للمشروعات المكتملة أن الأغلبية العظمى من تلك المشاريع كانت غير قادرة على تحصيل العائدات اللازمة لخدمة الديون التي مولتها. ومع ذلك، فقد أصبحت الدول المدينة ملزمة بخدمة هذه الديون وتسديد فوائدها بأية وسيلة، بما في ذلك المزيد من الاقتراض والتورط، وبالتالي المزيد من الفقر. وفي مواجهة هذه الحقائق التي لا يمكن إنكارها نستطيع أن نقول إن المسار الذي اتخذه كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كان دليلاً على عجز هاتين المؤسستين وافتقارهما إلى الكفاءة إذا افترضنا حسن النوايا. أما إذا افترضنا سوء النوايا، فقد كان ذلك المسار خدعة متعمدة، الهدف منها إبقاء الدول الواقعة إلى الجنوب من الصحراء تحت نير العبودية. كذلك، فإن الشركات الكبرى في الغرب قلما تضع أفريقيا على خارطة خياراتها في سياسة تصدير الأعمال أو نقل الإنتاج الرائجة اليوم على صعيد عالمي، كما هو حاصل الآن في آسيا وأميركا اللاتينية وشرق أوروبا. ومما يثير الدهشة أن التنافس على الأجور يمثل مشكلة في أفريقيا. فمع أن القارة تعتبر المنطقة الأكثر فقراً على مستوى العالم في المتوسط، إلا أن الأجور في إطار الاقتصاد الرسمي عادة ما تفوق مثيلاتها في الصين والهند، حيث تعمل الحكومات في الدولتين على توفير الغذاء الأساسي والإسكان والمواصلات بتكاليف منخفضة نسبياً من خلال الدعم المالي والآليات الرقابية. أما في أفريقيا فإن تكاليف الغذاء والمواصلات على وجه الخصوص مرتفعة نسبياً، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع الأجور. وفي الوقت ذاته، فإن العدد الذي توفره أفريقيا من المحترفين والعمالة الماهرة ضئيل نسبيا؛ وهذا العجز يؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأجور. يقول أحد الكتاب الغربيين عن تصدير الأعمال إلى أفريقيا : في طوابق متعددة من بناية واحدة شاهقة مخصصة للمكاتب في أكرا، عاصمة غانا، هناك ما يقرب من ألف وخمسمائة موظف أفريقي يعالجون طلبات التأمين الصحي لمواطنين من الولاياتالمتحدة، وهم يعملون على مدار الساعة في ثلاث فترات لحساب شركة «المتحدة لخدمات الحاسب الآلي» الأميركية. ويتحدث هؤلاء الموظفون اللغة الإنجليزية، ويطبعون بسرعة لا تقل عن خمسين كلمة في الدقيقة على لوحة الحاسب الآلي، ويرفعون البيانات من على استمارات الطلبات المكتوبة، والتي تقدم بها مواطنون في الولاياتالمتحدة من المنتفعين بخدمة التأمين الصحي، حيث تصلهم على هيئة ملفات إلكترونية عن طريق القمر الصناعي، ثم يسجلون هذه البيانات في استمارات رقمية جديدة ويعيدونها مرة أخرى إلى الولاياتالمتحدة. وحيث ان هؤلاء الأفارقة يعملون من خلال شبكة معلومات إلكترونية مفتوحة، فقد أصبح في إمكان أحد المشرفين الأميركيين على بعد ثمانية آلاف ميل أن يشرف على عملهم أثناء تعبئتهم لتلك الاستمارات. ويتقاضى مبرمجو البيانات الأفارقة ما بين أربعة إلى خمسة دولارات في اليوم، وهو ما يعادل أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور في غانا.