تتوقع الحكومة العراقية أن يسترد العراق جزءاً كبيراً من عافيته الاقتصادية في غضون العام القادم. وتتوقع أن تكون مؤشرات النمو الاقتصادي 10 في المائة تقريباً، مقارنة برقم اقل هذه السنة، إذ أن مؤشرات النمو الاقتصادي ستصل هذا العام إلى خمسة أو ستة في المائة تقريبا. وقبل أيام، كشف نائب رئيس الجمهورية العراقية عادل عبد المهدي عن شطب90 بالمائة من ديون العراق التجارية وتخفيض مديونية البلاد إلى 20 مليار دولار نهاية هذا العام. فقد أنهت بغداد التعامل مع جميع الديون التجارية من خلال التوصل إلى آلية جديدة لاحتساب الدين تتضمن احتساب كل دولار تم بيعه إلى العراق بعشرة سنتات . وسيتم إطفاء 80٪ من ديون العراق على الشكل التالي: 20٪ أطفئت بعد ما أعلن عن هذا الاتفاق و30٪ ستطفأ بعد أن يوقع العراق على الاتفاقية ويبدأ بتنفيذ شروط البنك الدولي المتمثلة برفع الدعم عن الخدمات خلال مدة من 3-5 سنوات.. وبعد رفع الدعم نهائياً خلال هذه المدة سيتم رفع 30٪ وهي النسبة المتبقية من الديون المتفق على إلغائها. سوف يتم رفع الدعم بصورة تدريجية من خلال رفع أسعار المشتقات النفطية شيئاً فشيئاً وصولاً إلى السعر الذي يغطي كلفة الإنتاج والبالغ الآن 500-600 دينار في حين يباع ب 20 ديناراً، فالدولة تصرف مليارات الدولارات سنوياً تتحملها الخزينة العامة مقابل هذا الدعم.. وهذا بدوره يشجع عمليات تهريب الوقود إلى خارج العراق بسبب وجود فجوة كبيرة بين سعره في الداخل وسعره في الدول المجاورة، وإذا ما تم هذا الأمر فان الدولة سوف تتخلص من واحد من أهم مصادر الإنفاق. ومنذ منتصف العام 2004 بدأت السوق السوداء بالانتعاش، وارتفع السعر في هذه السوق بما يزيد على 50 ضعفاً من الأسعار الرسمية.وتشمل عمليات الاستيراد الحالية البنزين وزيت الغاز والغاز السائل والنفط الأبيض، وذلك بتكلفة تصل لأكثر من 300 مليون دولار شهرياً. ويرى مؤيدو خفض الدعم الحكومي أن المواد الغذائية يمكن للدولة أن تعوض المواطن عنها نقديا. وحسب إحصاءات وزارة المالية، فان الفرد في البطاقة التموينية يكلف الدولة 18000 دينار في حين أن ما يصل المواطن من هذه المواد لا يتعدى ال 7000 دينار، أي أن هناك تبذيراً بما يعادل 11000 دينار شهرياً، وهذه الأموال تخسرها الدولة. وإن هي دفعت للمواطن ما يعادل 18 ألف دينار أو 20000 دينار نقدا وسمحت للقطاع الخاص باستيراد السلع التي تتضمنها مفردات البطاقة التموينية، مع إضافة هامش ربحي يشجع التجار على عملهم، فسوف يكون المبلغ مجزياً وكافياً - حسب ما يرى هؤلاء. ويرى مؤيدو هذا الخيار أنه من الممكن أن تتم هذه العملية بصورة تدريجية، كأن تعمل الدولة في البداية على استيراد هذه المواد وبيعها للتجار والذين سيقومون ببيعها بسعر السوق، وبعد فترة زمنية من ذلك يمكن للتجار أن يقوموا بأنفسهم باستيرادها.. وبهذه الطريقة يرفع الدعم عن المواد الغذائية، ويكون بإمكان المواطن شراؤها من الأسواق المحلية من خلال إعطائه مبالغ نقدية معينة.. أما العوائل الفقيرة فستكون الدولة ملزمة بدعمها من خلال تخصيصات مالية مضافة. بيد أن بعض الخبراء يرون أن ثمة خطورة في تحويل نظام اقتصادي مخطط تخطيطاً مركزياً منذ أربعين عاماً إلى نظام يقترب من النموذج الليبرالي الذي يعتمد الاقتصاد الحر، فالثقافة السائدة ترى أن الدولة هي التي توفر للمواطن الخبز المدعوم و فرصة العمل وفرصة التعليم المجاني والخدمات الصحية بأسعار مدعومة..الخ. ويمكن أن نشير هنا إلى أن 60٪ من المواطنين العراقيين هم اليوم دون مستوى خط الفقر، وذلك حسب آخر إحصائية لوزارة التخطيط في بغداد، فإذا ما ألغيت البطاقة التموينية ورفع الدعم عن الخدمات مثل الوقود والكهرباء والمياه.. فكم ستكون نسبة هؤلاء؟ إضافة إلى هذا فإن نسبة البطالة الآن تصل 50٪ وعند اتخاذ هذه الإجراءات فان نسبتها سترتفع ربما إلى 80٪، وهذا معناه أن خط الفقر سيزداد وبالتالي تزداد معه معدلات الجريمة والتوترات الاجتماعية. ويمكن أن نلحظ أن الأطفال في المناطق الحضرية العراقية التي تدور فيها أعمال عنف يموتون بأعداد كبيرة بسبب أمراض الإسهال، وأمراض الجهاز التنفسي التي يمكن علاجها بإمكانيات متواضعة، وثمة أسباب أخرى ترجع إلى مياه الشرب غير الآمنة، والافتقار إلى الأطعمة المبردة، والنقص الشديد في إمدادات الدم والأدوية الأساسية في العيادات والمستشفيات (هذا إذا تجاسر المدنيون على ترك منازلهم طلباً للرعاية الطبية). ومع هذا فقد عجزت هيئة الصليب الأحمر الدولية ووكالات الإغاثة الأخرى عن إغاثة السكان المدنيين في عدد من المناطق. كذلك، تدهورت بنية الخدمات التعليمية في العراق على نحو غير مسبوق، والدولة العراقية لا سبيل لها اليوم سوى إعطاء أولوية متقدمة لحل هذه المعضلة، وما تم انجازه حتى الآن من إعادة تأهيل للقطاع التعليمي لا يكاد يمثل شيئا يذكر من حجم المشكلة. ولا ريب أن التعليم لا يقل أهمية عن القوة العسكرية كعنصر أساسي لازم لتوفير الأمن، ذلك أنه يساعد البلاد، على المستوى الفردي و المجتمعي، على الإفلات من عواقب الفقر الواسع الانتشار، والمشاكل البيئية، والمظالم الاجتماعية. فضلاً عن ذلك فإن التعليم يعمل على دعم رأس المال الاجتماعي والثقافي، الذي يساهم بدوره في تعزيز الاستقرار. كما يؤدي التعليم إلى تحسين صحة المواطن وزيادة متوسطات الأعمار. وبعيداً عن هذه الفوائد الواضحة، فقد يكتسب التعليم مكانة اعتبارية على نطاق واسع باعتباره التزاماً إنسانياً وحقاً أساسياً من حقوق الإنسان. إن السنوات العجاف التي حكم فيها نظام صدام حسين العراق لم تشهد أي خطوات حقيقية لتحسين أوضاع الفقراء، لهذا فان ما تواجهه الحكومة الراهنة وما ستواجهه الحكومات القادمة يعد نتاج معضلة مركبة، فهناك تبعات عهد مستهتر بشعبه، وهناك تبعات الفوضى الأمنية والاضطراب الحاصل في الحياة الاقتصادية والمعيشية للمواطنين. هذا فضلا عن فاتورة الديون وإعادة الإعمار. ويمكن لاستثمار ناجح في الميدان النفطي أن يخرج العراق على المدى المتوسط من أزمته المالية والاقتصادية الراهنة. وهناك عدد من العوامل التي مَكّنَت العراق من زيادة إنتاجه النفطي. ومن الأمور ذات الدلالة العميقة أن إدارة الرئيس بوش منحت العراق 2,3 مليار لاستعادة إنتاجه من النفط. وبعد الغزو لم يكن أحد ليتوقع أن يحصل العراق على قروض، ناهيك عن الحصول على مِنَح فورية. ولكن بدلاً من ذلك فقد تم استثمار 2,3 مليار دولار في قطاع النفط العراقي بشكل مباشر. ومن أجل حماية حقول النفط والمرافق النفطية الأخرى، كَرّست الولاياتالمتحدة قوة كبيرة من الجنود والشركات الخاصة. وهذا المستوى من الحماية لم يسبق له مثيل حتى إذا ما قورن بذلك السائد في عهد نظام صدّام . وعلى الصعيد الفني استعانت إدارة بوش بأفضل شركات الخدمات النفطية على مستوى العالم من أجل إصلاح حقول النفط التي تفتقر إلى التكنولوجيا. وما زال أمام هذه الشركات طريق طويل تقطعه قبل بلوغ هذا الهدف، ولكن التحسينات الكبيرة التي تمت حتى الآن أصحبت واضحة جلية. وعلاوة على ذلك، فإن الحرب لم تؤثر بالسلب على جودة حقول العراق، التي ما زالت حتى الآن من بين أغنى حقول النفط، ومن الممكن استخراج النفط منها بجهود واستثمارات بسيطة نسبياً. وفي النهاية، فقد قَدَّمَت أسعار النفط المرتفعة طيلة الأشهر الماضية مكاسب كبيرة غير متوقعة للميزانية العراقية، مما سمح بتمويل قطاعات أخرى بدون الحاجة إلى إهمال صناعة النفط. و المطلوب من الحكومة العراقية التي ستأتي بعد الانتخابات النيابية في كانون الأول ديسمبر القادم عدم إضاعة الفرص والإسراع بوضع القوانين والآليات لدعوة الشركات النفطية العالمية وتوفير المناخات والقدرات التفاوضية والفنية لدخول الاستثمار الأجنبي، وإعطاء صلاحيات واسعة لوزارة النفط لإبرام العقود. والعمل على الدخول في شراكات مع الشركات الأجنبية في قطاعي الاستثمار وبناء المصافي واستيراد المشتقات النفطية. ومن اللافت أن هناك اليوم من الخبراء العراقيين من يدعو إلى خصخصة القطاع النفطي العراقي، وخاصة في مجال تقديم الخدمات والمقاولات والأعمال المدنية الأخرى، كالنقل ومد الأنابيب وتشييد الأبنية. وتشير دراسات لوزارة النفط العراقية إلى أن البلاد تمتلك احتياطيات مؤكدة من النفط الخام تقدر بنحو 115 مليار برميل.كما أن لديها حقولاً نفطية مكتشفة ومقيمة وهي بانتظار الاستثمار، أبرزها حقول مجنون وغربي القرنة والصبة والحلفاية واللحيس. وحسب وزير النفط العراقي السابق ثامر غضبان، فان العراق بحاجة إلى استثمارات مع شركات أجنبية بقيمة 30 مليار دولار لتطوير الصناعة النفطية في مجالي الاستخراج والتكرير للسنوات الخمس المقبلة. وقد خصص العراق بالفعل مبلغ ثلاثة مليارات دولار في ميزانية العام 2005 لإعادة بناء صناعة النفط، وذلك بهدف زيادة إنتاج النفط والغاز وتطوير مصاف للتكرير وشبكة خطوط الأنابيب وبناء مصاف جديدة وتطوير حقول نفطية إضافة إلى أعمال التنقيب. ولقد كان قرار منح العراق التمويل اللازم لإصلاح صناعة النفط أحد أفضل القرارات التي اتخذتها إدارة بوش فيما بعد الحرب. فقد أعطت تلك الأموال للبلاد الفرصة لمعالجة قضايا الأمن والإنتاج والتكنولوجيا في كافة المجالات المرتبطة بقطاع النفط. ولكن هناك سؤال يظل ماثلاً أمامنا بلا إجابة حتى الآن: هل يستمر النمو في معدلات الإنتاج النفطي العراقي؟ على الرغم من تدفق الاعتمادات المالية الكبيرة والاحتياطات الأمنية غير المسبوقة، إلا أن المسلحين قد تمكنوا حتى الآن من إيقاف أو تخفيض إنتاج النفط وعمليات التصدير مرات عدة منذ الغزو. وتكاد تكون عمليات تفجير خطوط الأنابيب أو المرافق النفطية الأخرى في مكان ما من العراق أحداثاً شبه يومية. إن الحكومة العراقية، حتى مع الدعم الذي تحصل عليه من قِبَل الآلة العسكرية للولايات المتحدة، لن يكون بوسعها أن تضمن تدفقاً للنفط يمكن التنبؤ بمعدلاته، ولسوف يظل الإنتاج يعاني شيئاً من التقلب على المدى المتوسط . وعلى الرغم من ذلك، فإن المشاريع النفطية ساعدت على تطوير حوالي 75٪ من الإنتاج الحالي. وعند إكمال هذه المشاريع من المتوقع أن يعود إنتاج العراق إلى فترة ما قبل الحرب بما يعادل 6ر2 مليون برميل يومياً بإنتاج محلي، ومليوني برميل في اليوم لأغراض التصدير. وعلى المدى البعيد، يمكن القول إنه إذا كان هناك من تصور عام بأن أسعار النفط ستكون أكثر ارتفاعاً في المستقبل، فإن من يمتلكون احتياطيات النفط سوف يميلون إلى تأجيل الاستثمارات المكلفة في مجال التنقيب والاستكشاف، وتوسيع الطاقة الإنتاجية، وقد يبادرون إلى ضخ النفط بمعدلات أقل من السعة المعتادة. وحين تكون الأسعار مرتفعة فسوف يفضلون بيع نفطهم أولاً ثم الاستثمار فيما بعد، حتى يتمكنوا من تقييد الزيادة في المعروض. ولكن إذا ظن مالكو احتياطيات النفط أن الأسعار ستهبط على الأمد البعيد، فسوف يتولد لديهم الحافز إلى المزيد من الاستكشاف والتنقيب وتوسيع الطاقة الإنتاجية الآن بغرض بيع أكبر قدر ممكن من النفط قبل هبوط الأسعار. ولكن الحذر كل الحذر من الربط الميكانيكي بين تطور ثروة النفط العراقية وبين غنى أبنائه، فالتاريخ حافل بالاحباطات.فالنفط ليس بالضرورة أن يكون مرادفاً لمعنى الغنى. إن ذلك يمكن أن يحدث في حال أحسنت الحكومات العراقية القادمة استخدام خيرات البلاد والتزمت الشفافية وحسن التدبير. ولنعطي مثالاً على نموذج سلبي، فقد دخل خزينة الدولة النيجيرية ما يقدر بحوالي 300 مليار دولار من عوائد النفط على مدى الخمس والعشرين عاماً الماضية، ومع ذلك فقد ظل متوسط دخل الفرد في نيجيريا أقل من دولار واحد يومياً. والسبب وراء هذا بسيط، ألا وهو أن أغلب هذه المبالغ تنتهي إلى حسابات في بنوك سويسرية، مثل الحساب الذي كان يمتلكه الديكتاتور السابق ساني أباتشا. إن عوائد النفط قد تسببت في تفاقم الفقر وليس علاجه في دول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ولا يتسنى إصلاح هذا الانقلاب في الموازين سوى بالمكاشفة والشفافية. ولا غرابة أن كان هذا الأمر هو الهدف الذي وضعته مبادرة شفافية صناعات الاستخراج نصب عينيها، فقد طالبت هذه المبادرة بأن يكون نشر البيانات الخاصة بالشركات المتعددة الجنسيات أمراً إلزامياً. ومن المؤسف أن تصبح خطط المبادرة بلا مغزى إن لم تكن إلزامية، حيث إن الشركات والساسة الأفارقة لديهم كل الأسباب التي تدعوهم إلى تجنب الشفافية. إن غالبية الدول المانحة للعراق لم تقطع شوطا بعد باتجاه تنفيذ وعودها من أجل إعادة إعمار البلاد، فهذه الدول قدمت عروضا بتقديم أموال، ولكن المبالغ التي اتفق عليها، وخاصة في مؤتمر مدريد، لم تترجم إلى استحقاقات ضمن موازناتها الوطنية. ويعود الاهتمام الدولي ببرامج إعمار العراق إلى حزيران يونيو 2003، حيث عقد أول اجتماع تحضيري في نيويورك تم فيه إنجاز دراسة تخمين الحاجات من قبل الأممالمتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وممثلي بعض الوزارات العراقية، تم فيه تحديد قطاعات رئيسية لتكون موضوعاً للإعمار، ومنذ ذلك الحين والمحاولات العراقية لم تنقطع. إن المجتمع الدولي معني بالإيفاء بعهوده بدعم مسيرة إعادة إعمار العراق وتقديم أشكال العون المختلفة الكفيلة بتحقيق استقراره والدفع بخطط التنمية فيه.