"طموحي أن تعيش أسرتي في مدينة حقيقية ليست مزيفة، لا أريد أن أعيش في مدينة تسابق الهواء"، هذه الكلمات للأمير سلطان بن سلمان، فهو لا ينفك يتحدث عن المدينة كحاضنة للنشاط الإنساني ويرى أن نجاح عمرانها يعني بالضرورة ارتفاع جودة الحياة. كما أنه يربط مفهوم المواطنة الواسع بحقيقة أن الإنسان يسكن الأمكنة ويتمثلها وتشكل ذاكرته، وبالتالي فإن "العلم" كرمز وطني يحتاج إلى ما تحت العلم، المكان الذي يروي قصص المواطنة ويعبر عن قيم وآداب الوطن، ويجمع الناس ويحدد ملامح اختلاطهم ببعض وبنيتهم الاجتماعية. وهو يقرر هنا أن اندفاعنا للمواطنة لا يتعدى المظهر ولم ينتقل للجوهر، ويرى أن الإنسان السعودي بحاجة إلى إعادة ارتباط مع الوطن الذي لا يعرف أمكنته وقصصها بعمق. قيادة التحول، التي بدأت منذ رحلة الأمير للفضاء، والتي مرّ عليها الآن ثلاثون سنة، إلى اليوم، تؤكد أن تجربة الفضاء الواسع جعلته يرى الأرض بمنظور أوسع. التفاصيل التي نتنافس عليها وتشكل حياتنا اليومية هي جزء يسير من منظومة كونية تتطلب النظام والانتظام لكنها كذلك تحتاج أن نعرف عن هويتنا ووجودنا في هذا الكون. هاجس المكان هو تعبير عن "اللحمة" و "لمّ الشمل" والبساطة في تفاصيل الحياة لكنه في نفس الوقت يمثل "الاستمرار" و "التواصل" بين الأجيال، لذلك نرى الأمير يقول دائماً: "لا أحب الأماكن التي يوجد بها زوايا مظلمة" في تأكيد واضح على أن الوطن يجب أن يكون مفتوحاً بتاريخه المتراكم على المواطن. الأمير ينتقي كلماته العمرانية بدقة لكنه يربطها بعمارة الإنسان، وهذه هي المسألة المهمة، فالمدينة الإنسانية، ليست لأنها مهيأة لاستخدام الإنسان بل لأن من يسكنها ويعيشها هو الذي يبث فيها الإنسانية. هذه الفلسفة ترتبط بتاريخ طويل للأمير مع المفهوم الإنساني/العمراني المتوازن، فرغم أن سلطان بن سلمان ليس معمارياً أو مخططاً عمرانياً لكنه إنسان آثر أن يخوض التجربة العمرانية من خلال المعايشة وهنا يكمن الفرق، لأن الإحساس بالمدينة يتكون من خلال المقدرة على رؤية الأشياء الباطنة التي يصعب أن يراها إلا من تدرب بصرياً ووجدانياً، لأنه يرى المكامن الإنسانية المختبئة في زوايا المدينة وفي أركانها وفي شخوصها ويصنع من كل هذه المشاهدة "موقفاً إنسانياً". قصص كثيرة يرويها سلطان بن سلمان عن الرياض، المدينة والإنسان، وعن الأيام الجميلة التي عاشها في رياض الستينات والسبعينات، من المنصورية حيث ولد في منطقة المصانع وسط الرياض، إلى المعذر وذكريات قلب الرياض وشارع الوزير الذي كان يشكل المتنفس والمتحف المعماري الأخاذ. مبنى الشرطة والأمانة والبريد والمكتبة العامة، كل هذه الرموز المعمارية التي كانت تشكل رياض البساطة والهدوء اختفت اليوم ولم يعد لها وجود، لأن المدينة التي "تسابق الهواء" جامحة في عمرانها لا تريد أن تستقر. ذاكرة المدينة تمثل حالة نفسية خاصة، أي أنها تتشكل من خلال هذه الصور المتداخلة التي نبنيها عن المدينة من خلال تجاربنا وخبراتنا الشخصية مع الأمكنة، وهذه التجارب تحتاج إلى استقرار وإلا أصبحت مرتبكة. كثيراً ما كنت أسمع بعض الأسئلة عن سر اهتمام الأمير سلطان بالتراث العمراني ولماذا هذا الارتباط الذي دام أكثر من ثلاثة عقود ومازال وقاد الأمير للاهتمام بالتراث الوطني بشكل عام. لابد أن نشير هنا أن السر يكمن في مفهوم "المواطنة" فلا يمكن أن تنتمي إلى بلد عظيم ليس له جذور وأصول، كما أنه يكمن في المكون الإنساني الذي يملكه تراثنا العمراني، البساطة التي لا يمكن تفسيرها والتعبير الجغرافي العفوي. لذلك نجد أن رحلة الأمير مع التراث هي رحلة معايشة فمنذ نهاية الثمانينيات عندما بدأ في بناء بيت الطين في نخيل العذيبات بالدرعية وعلاقة الاكتشاف والتعلم تنمو كل عام وتزيد الأمير قناعة وإيماناً بأن المكان التاريخي، ليس "شيئاً جامداً" بل هو كائن حي ممتد في الماضي والحاضر والمستقبل. لابد أن أقول هنا أن الأمير سلطان انتهج الطريق الصعب في التعلم، فهذا العمق بمدلولات التراث والعمران، لم تتشكل عبثاً، بل من خلال الاحتكاك بكبار المفكرين والمختصين، ومن خلال زيارات منهكة ومتعددة لمواقع تمثلت فيها التجربة الإنسانية العمرانية، إضافة إلى معرفة متأنية بالجغرافيا الوطنية والثقافات المتعددة التي يتشكل منها الوطن. المشاهدة والفضول المعرفي والإيمان بالوطن كلها ساهمت في بناء هذه الرؤية العميقة لدى الأمير التي جعلت من مسألة العمران محركاً للتعامل مع القضايا الكبيرة التي تهم الوطن. دفاعه عن الدرعية وعن جدة التاريخية وعن جميع المواقع التاريخية في المملكة، هو جزء من "الهم الثقافي" الكبير الذي يحمله أمير السياحة والتراث، وهذا الهم، ليس فقط لأنه في موقع المسؤولية بل هو هم شخصي، لكنه همّ يشعره بالسعادة وهو يشاهد علامات التحول المجتمعي نحو التراث. يحكي لي الأمير أنه تأثر من موقف زوجة أحد الأجانب التي آثرت أن تسكن في أحد بيوت الدرعية القديمة بينما أهل البلدة هجروها. إعادة ثقة أبناء الوطن في تراثهم مهمة قد تكون مستحيلة أحياناً، لأنها تتطلب وقتاً وصبراً ومثابرة، فالتحول لا يحدث بقرار لكنه ينمو ويتغلغل داخل جسد المجتمع من خلال التفاعل المباشر وغير المباشر وهذا ما قام به الأمير خلال الثلاثة عقود الفائتة. ومع ذلك فهو لا يترك أي فرصة سانحة إلا واغتنمها من أجل تحقيق مكاسب مجتمعية تعجل التحول، مثل تطوير الدرعية وتنمية وادي حنيفة وأخيراً مشروع تطوير وسط مدينة الرياض الذي سيعيد للعاصمة جزءاً كبيراً من شخصيتها العمرانية والإنسانية. قيادة التحول المجتمعي في مجال السياحة والتراث، لابد أن تكون ذات مضمون إنساني، كما أنها لابد أن تكون مبرراً اقتصادياً، لأن البعض قد يعتقد أن "التراث" عبارة عن "عاطفة" وليس حقيقة إنسانية/اقتصادية لها حضورها الثقافي الذي لا يمكن نكرانه. رؤية الأمير تربط التحول بالاقتصاد حتى يكون تحولاً مستداماً. المدينة الإنسانية تصنع اقتصاداً مستداماً لأنها ترتقي بمن يسكنها، كذلك التراث بكل أشكاله، هو في جوهره مكون إنساني وبالتالي فإنه يجب أن يكون ضمن سلسلة اقتصادية مستدامة بعيدة عن العواطف الجياشة فالمسألة مرتبطة ببناء مجتمع قوي مؤمن وله شخصية ومنتج. قيادة التحول، التي بدأت منذ رحلة الأمير للفضاء، والتي مر عليها الآن ثلاثون سنة، إلى اليوم، تؤكد أن تجربة الفضاء الواسع جعلته يرى الأرض بمنظور أوسع. التفاصيل التي نتنافس عليها وتشكل حياتنا اليومية هي جزء يسير من منظومة كونية تتطلب النظام والانتظام لكنها كذلك تحتاج أن نعرف عن هويتنا ووجودنا في هذا الكون. التحول يبدأ من هنا، من فكرة النظام والتوازن اللذين يميزان التراث ويجعلانه محركاً حقيقياً للتنمية وبناء الشخصية الوطنية. السر يكمن، كما يرى الأمير، في الوضوح والابتعاد عن الزوايا المظلمة. لمراسلة الكاتب: [email protected]