إن تمثيل سياسة المملكة العربية السعودية على المستويات الدولية ليس بالأمر السهل الذي قد يبدو للبعض. فالمملكة العربية السعودية تمثل أصل العروبة وقبلة الإسلام وخادمة للحرمين الشريفين. هذا من جهة مركزها بالنسبة للدول العربية وللعالم الإسلامي الكبير. ومن جهة أخرى تمثل المملكة العربية السعودية مركز التأثير الدولي فيما يتعلق بمصادر الطاقة بحكم ما تملكه من مخزون نفطي يعتبر الأكبر عالمياً وبحكم قدرتها الانتاجية الكبيرة التي تستطيع من خلالها التأثير في مستوى النمو الاقتصادي العالمي. من هذه المقدمة البسيطة والسريعة والتي توضح مدى أهمية ومركزية المملكة العربية السعودية على المستويات الدولية المختلفة، نستطيع القول إن من يختار لتمثيل السياسة السعودية والعربية والاسلامية يجب أن يكون على مستوى عالي من التأهيل والكفاءة والعلم وغيرها من القدرات والمميزات والامكانات التي تؤهله لتمثل الدولة السعودية على أكمل وجه. وإذا ما عدنا للأمير سعود الفيصل الذي مثل السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية منذ 1975م وعلى مدى أربعين عاماً، نجد أن هناك الكثير من الصفات التي ميزته ليكون خياراً من مناسباً لتمثيل السياسة السعودية على المستوى الخارجي مما جعل ملوك المملكة منذ عهد الملك خالد والملك فهد والملك عبدالله رحمهم الله وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله يضعوا ثقتهم الغير محدودة في شخص سعود الفيصل وفي قدرته ويروا فيه الرجل المناسب لتمثيل سياسة الدولة خير تمثيل. وللتدليل على ذلك، سنتشهد سريعاً فيما جاء في البرقية التي وجهها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله لصاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل والتي جاء فيها بأننا "تلقينا طلب سموكم إعفاءكم من منصبكم لظروفكم الصحية, وما حمله الطلب من مشاعر الولاء الصادقة لدينكم ومليككم ووطنكم, وهذا ليس بمستغرب على سموكم .فقد عرفناكم كما عرفكم العالم أجمع على مدى أربعين عاماً متنقلاً بين عواصمه ومدنه شارحاً سياسة وطنكم وحاملاً لواءها, ومنافحاً عن مبادئها ومصالحها, ومبادئ ومصالح أمتكم العربية والإسلامية, مضحين في سبيل ذلك بوقتكم وصحتكم, كما عرفنا فيكم الإخلاص في العمل والأمانة في الأداء والولاء للدين والوطن فكنتم لوطنكم خير سفير ولقادته خير معين...." ونحن عندما نقول بأن الأمير سعود الفيصل يمثل مدرسة مستقله بذاته في إدارة السياسة الخارجية، فإن قولنا مبني على عدة اعتبارات، ومن هذه الاعتبارات: أولاً: التمسك بالمبادئ والقيم العربية والإسلامية. فعلى مدى الأربعين عاماً التي عمل فيها وزيراً للخارجية لم نجد تصريحاً واحداً أو موقفاً سياسياً يتعارض مع المبادئ والقيم العربية والاسلامية التي قامت عليها المملكة العربية الإسلامية. ثانياً: تمثيل المصالح العربية والدفاع عنها من غير تردد. ومن يسترجع التاريخ يجد الكثير من الشواهد التي تدل عل ذلك. ولكن لعل مداخلته في ختام القمة العربية السادسة والعشرون التي عقدت في شرم الشيخ في 28 مارس 2015م خير دليل وخير شاهد على مدى حرصه وغيرته على الأمه العربية مصالحها. فمن خلال رده على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي وجهها للقادة العربي، قال الأمير سعود الفيصل "آمل ... أن يعبر الرئيس الروسي عن مدى احترام العالم العربي بأن تكون العلاقات مع روسيا على أفضل مستوى وروسيا من الدول التي يحتاجها العرب ويحتاج إلى دعمها في القضايا الدولية وخاصة في القضايا التي لا خلاف على تأثيرها على المصلحة العربية ونطالب بأن يكون مسعاه في علاقته بالنظام السوري يتماشى مع الأحداث التي ذكرها في رسالته، أنا لا أريد أن نقف ضد روسيا أو لا نراعي مصلحة روسيا بل نبني مصالح مع روسيا ولكن نأمل أن يتيح لنا المجال أن نتمكن من النظر إلى روسيا كبلد صديق يريد الخير للعالم العربي." فهذا التصريح والخطاب المباشر جاء في آخر أيامه رحمه الله مما يدل بأنه على مدى الأربعين عاماً التي خدم بها وزيراً للخارجية كان يتبنى هذا النهج العربي الأصيل. ثالثاً: الحزم والعزم في تمثيل المصالح العربية. ويتضح ذلك بشكل جلي في موقف المملكة العربية السعودية من عمليات حزب الله اللبناني تجاه الكيان الإسرائيلي في يوليو 2006م بقولها إنها "تود أن تعلن بوضوح أنه لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية وبين المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومن وراءها، دون رجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها، ودون تشاور أو تنسيق مع الدول العربية، فتوجد بذلك وضعاً بالغ الخطورة، يُعّرض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار، دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول". فهذا الموقف السعودي عبر بشكل مباشر عن أهمية العمل العربي المشترك وأهمية التنسيق وعدم المجازفة التي قد تكلف المصالح العربية الشي الكثير. ولصدق الموقف السعودي الذي اتخذته وزارة الخارجية السعودية، جاء تصريح قائد حزب الله في سبتمبر 2006م ليقول إن "قيادة الحزب لم تتوقع ولو واحداً في المئة أن تؤدي العملية إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم لأنه وبتاريخ الحروب هذا لم يحصل. لو علمنا ان عملية الأسر ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً." رابعاً: الهدوء والاتزان في التعامل مع الأحداث الدولية. فإذا كانت المواقف السياسية كثيرة ومتعددة، إلا أننا نستذكر فقط موقفاً واحداً يظهر مدى الهدوء والاتزان الذي كان يتمتع به الأمير سعود الفيصل. ففيما يتعلق باحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، صدر عن الكونجرس الأمريكي عام 2003م تقرير في 28 صفحة يتهم المملكة بأن تدعم الإرهاب. وعلى الرغم من مدى التضليل الذي تضمنه التقرير، إلا أن رد الأمير سعود الفيصل كان هادئاً ومتزناً وحازماً في نفس الوقت. حيث جاء في البيان الذي صدر بعد لقائه بالرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بأن "التقرير الذي صدر عن لجنة التحقيق الخاصة بأحداث 11 سبتمبر تضمن اتهامات للمملكة بدون سبب ،ومبني على تكهن مضلل ونية مقنَّعة حقودة .ووصفه بأنه انتهاك لأي إحساس بالعدالة، وأن هذا الاتهام مبني على تكهن مضلل ونية سيئة. وبأن التقرير أغفل أو تجاهل عن عمد جهود المملكة المستمرة في الحرب على الإرهاب". فإذا ما استرجعنا صعوبة تلك الأحداث والحملة الصهيونية التي كانت على المملكة والإسلام، ندرك إلى أي مدى كان موقف الامير سعود الفيصل هادئا ومتزناً وحكميا في مثل هذا المواقف الذي يعتبر من المواقف الأكثر صعوبة في تاريخ السياسة السعودية. خامساً: تطبيقه لمبادئ وقيم السياسة السعودية والقائمة على احترام القانون الدولي والمتمثلة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأخر. فمن خلال مواقفه وتصريحاته نجد احتراماً كبيراُ جداُ لسيادة الدول أياً كان حجمها أو موقعها من السياسة الدولية. فدائماً ما كان يشدد على هذا الجانب ويؤكد عليه. سادساً: دعم الأمن والسلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بجميع الوسائل والسبل. ومن ذلك وقوفه بشكل مباشر في وجه التدخلات الإيرانية في اليمن. فخلال لقائه بوزير الخارجية البريطاني السيد فيليب هاموند يوم 23 مارس 1436ه قال الأمير سعود الفيصل "نحن ضد الموقف الإيراني؛ لأنه لا يأتي لحماية إيران من اليمن وغيره؛ وإنما يأتي عدواناً وليس طلباً من الشرعية اليمنية. فكيف يكون أحد معه." ونختم بالقول إن الأمير سعود الفيصل كان مدرسة قائمة بذاتها في إدارة السياسة الخارجية السعودية. هذا المدرسة التي قادت الدبلوماسية والسياسة الخارجية السعودية على مدى اربعين عاماً 1975-2015م تميزت بعناصر عدة: 1) الهدوء؛ 2) الاتزان؛ 3) الحكمة؛ 4) الصدق في التعامل؛ 5) التمسك بالمبادئ والقيم العربية والاسلامية؛ 6) الحزم والعزم في المواقف السيادية عربياً واسلاميا؛ 7) الدقة في أداء العمل والتي تظهر من خلال التصريحات والبيانات؛ 8) الثبات في اتخاذ المواقف السياسية؛ 9) الاحترام والتقدير للجميع ومن الجميع؛ 10) عدم التكلف في التصريحات والبيانات؛ 11) القدرة على الاقناع؛ 12) القدرة على كسب تأييد الرأي العام للقضايا العربية والعادلة؛ 13) القدرة على إيصال السياسة العربية والإسلامية للمحافل الدولية وللرأي العام العالمي؛ 14) تمثيل مصالح الدولة والمصالح العربية والإسلامية على أكمل وجه. وإذا كانت هذه بعض المواقف والنقاط العناصر التي يمكن استخلاصها من حياة الأمير سعود الفيصل بشكل مبسط، إلا ان هناك الكثير والكثير من المواقف السياسية والسمات الشخصية التي يمكن أن تذكر وتدون. لذلك فإن كتابة سيرة الأمير سعود الفيصل متضمنة حياته الدبلوماسية ومسيرة عمله في إدارة وصنع السياسة الخارجية السعودية سوف تضيف الكثير للمكتبة العربية وخاصة في موضوعاتها السياسية والدبلوماسية. *أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود الأمير سعود الفيصل.. وجه المملكة الدولي لأكثر من أربعين عاماً الأمير سعود الفيصل في لقاء سابق مع مدير عام إدارة آسيا وأفريقيا لدى وزارة الخارجية المكسيكية