"يا الله اغفر لأولئك الذين لا يعرفون كيف يلبسون، وأولئك الذين لا يستطيعون تمييز الألوان وانسجامها" هذه مقاطع من تراتيل حركة الجمعية المعروفة باسم (ساب) وتعني (الناس الأنيقين الخالقين لجو البهجة)، هذه الجمعية الغريبة والتي انطلقت عام 1960 من مدينة برازافيل بجمهورية الكونغو الديمقراطية ممتدة لمدينة باريس وإلى العالم، وتحمل شعار (الفن الذي يمكن ارتداؤه)، الثياب التي تعيد اختراع الهوية والوجود المتسامي، وتتحدى التقاليد المعروفة لمفهوم الأزياء. تستقبلك تلك المجموعة المتحمسة من شباب حركة ساب، ويشرحون لك دوافع حركتهم الدولية، والتي توحد أعضاؤها عن طريق علوم وطقوس خاصة لها بشأن الثياب يشلمونها فيما يسمونه علم السابولوجي، العلم الذي يهدف إلى الارتقاء بالثوب بحد ذاته إلى مرتبة اللغة والفن! ولقد تم اشتقاق كلمة ساب من طقس يمارس في الكونغو ويقوم على أداء مسرحي تلعب فيه الأزياء دوراً حيوياً، حيث يتحدث كل ثوب ويجسد رموزاً تضخم الهوية وتبرزها. تتأمل في تلك الأزياء المتضاربة الألوان ومن مواد عجيبة وتتساءل ما إذا كان يجب عليك أن تطلب لهم المغفرة هم أيضاً، حيث لا يمكن أن يقبل الذوق العادي تلك التركيبات العجيبة والأقرب للتنافر، لكنها وبتنافرها تنقل طاقة تشحذ المتلقي بشعور بالتحرر من كل قوانين الموضة وقيودها. حركة ساب هي حركة تحرير الثوب وتحرير الذوق من الذوق ذاته. العرض الأكثر إدهاشاً والمتزامن مع عرض بالية دوتوكيو هو الجزء الخاص بمحاولة إعطاء نكهة لمعرض حافة العالم، هذا العرض الذي يتم خارج المتحف ويتخصص في تتبع فرضية أنه إذا كان من الممكن تذوق حواف العوالم، فما هي نكهة ولون وملمس تلك الأراضي المجهولة؟ يجيب على هذا التساؤل نجم الطهاة بيير غانيير من مواليد عام 1950، والذي يعيش ويعمل في باريس، ويعد من رواد الحركة المعروفة باسم (انصهار المطابخ) والتي بدأت في مطابخ معاصرة بمختلف أنحاء العالم منذ 1970، وسعت لخلق وصفات تخلط أساليب الطبخ المختلفة من مطابخ العالم، بيير غانيير هو أكثر من طاهٍ شهير حصل على ثلاث نجمات ميشلان التي هي حلم كل طاهٍ، فهو يقدم طبخاته كفن وبذلك ساهم في تظاهرة باليه دوتوكيو، حيث يقوم وفي فترات منتظمة طوال فترة المعرض بتوفير قائمة بالمذاقات والنكهات في أطباق يطهيها للجمهور في مطعمه المسمى باسمه في فندق بلزاك بالدائرة الثامنة في باريس، والذي يصفه بكونه المطبخ غير المتوقع على الإطلاق أي الخارج عن كل التوقعات، والذي يمكن أن يكون مربكاً بعض الشيء، إذ يقوم في طبخاته المذهلة بإعادة اختراع علاقات بين المواد وخلق حيوات جديدة ونكهات تعتمد بالدرجة الأولى على المتذوقين الذين يضفون من أنفسهم على ما يقدم لهم بصورة تسمح لهم بالإضافات والتطوير، كما تستغل المشاعر كجزء أساسي من المواد المستعملة في إنتاج كل طبخة، وتحفز الوعي بالسعة الهائلة للعوالم المنسية على حواف العالم. (حواف العالم على قائمة الطعام) هي رحلة تتحدى المفهوم التقليدي سواء للفن أو للطبخ، ويتبرع بيير غانيير بتقديم 16 دعوة للجمهور لتجربة فنه وتذوق ما لم يسبق تذوقه، فن كما يصفه (يتطلع للغد ويحترم الأمس). وضمن تنوع العروض المتزامنة مع احتفالية باليه دو توكيو يجيء عرض الفيديو المثير بعنوان (الأمير الأسود)، ويتناول راكب الدراجة النارية والذي كان مثار اهتمام عظيم وفضائح بوسائل الإعلام عند ظهوره بدراجته السوزوكي صباح الأحد عام 1989 على الطريق الدائري بباريس مثبتاً كاميرا لدراجته ومصوراً المغامرة غير المشروعة التي قام بها، حيث قدم عرضاً قام فيه بقيادة دراجته النارية تلك بسرعة متهورة وصلت أحياناً ل250 كم في الساعة، قطع فيها ذلك الطريق في 11 دقيقة و4 ثوان محطماً الرقم القياسي للسرعة، الأمر الذي جعله أسطورة في عالم قيادة الدراجات النارية، وتنوعت الألقاب التي أُسبغت عليه من الأمير الأسود للصارخ المخملي وهكذا. وإن ما أذهل الجمهور في ذلك العرض هو أن جسد الرجل والدراجة صارا كتلة واحدة، صارا كائناً هجيناً في بحث محموم لتحدي الطاقة القصوى سواء للإنسان أو للدراجة، صارا كائناً متجاوزاً لإنسانيته وفي نفس الوقت واع بهشاشته وباحتمالية الموت المحتوم في كل مرحلة من مراحل تلك الطريق، ولقد تركت تلك القيادة أثرها على جمعيات قائدي الدرجات النارية حول العالم، واتفقت على تبني هذا التجاوز للطاقة وهذه المقاربة للخطر كضرورة، وصار شعارها: (قد بسرعة أكبر وأكبر، واعتنق مذهب المتعة، وتفادى القانون وتكرس للخطر في احتفال بالحياة، وروج لنموذج الحياة الخطرة لنبذ الركود الاجتماعي، وذلك بتجربة التمتع بالضغط على زر السرعة لدرجة مسكرة، ولكن وفي نفس الوقت تذوق الشعور بالتفوق في كونك المتحكم في تلك النقطة الحادة من الوجود، الوجود على الحافة بين الموت والبقاء.) ولايكتفي باليه دوتوكيو بعرض هذا الفيديو التاريخي بل ويفاجئنا باحتفالية بالأصوات، وذلك في الفيديو الآخر والمسمى (ديلي كوس) بمعنى (لغة الطير) والذي تم تصويره في قرية (كوسكوي) بتركيا والتي تعني (قرية الطيور)، ولقد تم ابتكار لغة الطيور تلك منذ أربع مئة سنة، وذلك لمواجهة احتياجات المزارعين في منطقة جبال بونتوس، حيث كانت تلك منطقة ذات جغرافية وعرة مما جعل التنقل فيها عسيراً، لذا ولمواجهة تلك الصعوبات لجأ المزارعون لابتكار وسيلة جديدة للتواصل وتبادل الأخبار، فاخترعوا لغة الديلي كوس وهي اللغة التي يقلد فيها الإنسان صفير الطيور، ويتحول كل مقطع لفظي من اللغة التركية لصفير في أغنية معينة تسافر عبر التضاريس ووعورة الجبال. فبواسطة تنويعات الصفير يمكن لأهل قرية كوسكوي تبليغ بعضهم البعض بوصول زائر، أو بدعوة لتناول الشاي أو لطلب المساعدة، أو لمحادثات أكثر تعقيداً، حيث يهتم الجيل الشاب من أهل القرية بتطوير لغة الطيور السرية تلك، مما يجعل كوسكوي تضم أكبر عدد من الصافرين، وتتفوق على دول تستعمل لغات شبيهة مثل اليونان والمكسيك وأسبانيا. ونختم بعمل الفنان التسعيني آرنولد أودرمات من مواليد 1925 في سويسرا، وكان يعمل كرجل بوليس بمنطقة نيدوالدن وترقى ليصير نائباً لرئيس بوليس مراقبة الطرق قبل أن يتقاعد بالنهاية، لكن آرنولد كان عاشقاً للتصوير رغم بعده عن طبيعة عمله كرجل بوليس ولقد استغل تلك الهواية ليقوم بتصوير تقارير حوادث العربات والدراجات على مدى ستين عاماً، ستة عقود مضى خلالها وبعناد وتكرس يصور خرائط الجرائم اليومية، في سلسلة من اللقطات المتعاقبة للحوادث والتي يحتل فيها الهزل مكان التراجيديا والتوثيق. وتتضح الحبكة المحكمة لتركيبات آرنولد الفنية وذلك في تصويره للخطوط التي ترسم على الطريق وتتبع الممرات التي سلكتها السيارت قبل الارتطام، ولكأنه يتتبع خيوط القدر الذي قاد لذلك الخروج عن المألوف. ولقد ظل آرنولد يصور ويحتفظ بالصور في ارشيفه الخاص حتى عام 1990 حين قام ابنه أورس باكتشاف ذلك الأرشيف السري أثناء البحوث التي قام بها لإخراج فيلمه السينمائي، ولقد ضمن ذلك الإرشيف في الفيلم وكشفه للجهمور. ولقد تتالي الاهتمام بتلك الصور وتم عرضها في مناطق مختلفة في العالم مثل بينالي البندقية 49 عام 2001، ومعهد شيكاغو للفنون عام 2002. معرض عند حافة العالم هو مزيج من تطرف بشري، يتراوح بين المذاقات والأصوات والألعاب والشغف السري لأولئك المبدعين، وإن الرحلة التي قامت بها القيمة على المعرض ريبيكا لامارش فوديل قد نجحت في وضع تلك اللحظات السرية من الشغف بمتناول الجمهور، بل ووضعتها بمقابل بعضها البعض لتقول بتنوع أفلاك المغامرات التي تستهوينا كبشر، وكخارجين عن بشريتنا بوساطة فعل الخلق الشديد الخصوصية ذاك، أنه معرض يمدد الفن لمناطق لم يخطر للفن أن يدعيها من قبل.