أشاهد أفلاماً علمية ووثائقية كثيرة على اليوتيوب.. وحين يتعلق الأمر بعلوم الفيزياء والفلك لا بد أن أصادف مقطعا أو استشهادا بالعالم البريطاني المعاصر ستيفن هوكينج.. والحقيقة أنني عاصرت هذا الرجل خلال سنوات طويلة سبقت اليوتيوب وعصر الانترنت.. فقد قرأت له في وقت مبكر كتاب "موجز تاريخ الزمن" ونظريته في الثقوب السوداء ورأيه في الخلق وإمكانية السفر عبر الزمن.. ناهيك عن كتاب في سيرته الشخصية بعنوان "العبقري والكون" لجون بوزلو. والمدهش في سيرة هذا الرجل أنه معوق لدرجة التآكل بمعنى الكلمة.. فهو مصاب بما يعرف بالتصلب الضموري ALS الذي يترافق مع تآكل الجهاز العضلي والعصبي بحيث يغدو المرء مشلولا بالكامل ورخوا كالعجينة. وهو داء لا شفاء منه يتفاقم بمرور الأيام بحيث يبدأ المصاب حياته طبيعيا قويا قبل ان ينكمش جسده وينهار حتى يصبح جلدا على عظم (ولكن دون أن يؤثر ذلك في دماغه أو ذكاءئه ومواهبه)! وكان هوكنج قد ولد عام 1942 لوالدين متعلمين تخرجا أيضا في جامعة أكسفورد.. ومثل جميع العباقرة لم يكن أداؤه في المدرسة أفضل من المتوسط وكان خط يده يثير غضب والديه ولكن زملاءه الذين يعرفونه جيدا كانوا يدعونه "أينشتاين الانجليزي".. ولم يبدأ جسم هوكنج بالتآكل الا مع دخوله جامعة اكسفورد عام 1962. ورغم انهيار جسده في الاعوام التالية، وتوقع العلماء وفاته بعد سنتين؛ مايزال على قيد الحياة وقدم مساهمات علمية قل نظيرها في تاريخ العلوم.. وبسبب عجزه عن الكتابة والكلام كان يجري الحسابات الرياضية والفيزيائية في رأسه ويحتفظ بها في ذاكرته لوقت طويل.. وأتته فرصة التعبير عن أفكاره الجديدة حين قدمت له شركة انتل كمبيوترا متطورا يتيح له إخراج أفكاره من خلال صوت الكتروني مفهوم (وهذه وحدها معجزة تقنية تستحق مقالا خاصا، ولكن أدخلوا في اليوتيوب هاتين الكلمتين Stephen Hawking لتشاهدوا كيف يتحدث)!! ورغم عجزه عن الكلام والكتابة، ألف أكثر من سبعة كتب أبرزها "موجز في تاريخ الزمن" و"الثقوب السوداء والأكوان الوليدة" و "الكون في قشرة جوز" وقد لا يتفوق على هوكينج في قوة الإرادة غير وفاء زوجته "جين وايلد" التي رفضت التخلي عنه رغم أنها تزوجته شابا صحيحا ووسيما عام 1965.. ويملك الاثنان سجلا إنسانيا مشرفا حيث شارك الاثنان في دعم مشاريع الطفولة في الدول الفقيرة والمظاهرات المناهضة لاحتلال العراق ناهيك عن إلقاء المحاضرات في جامعات عالمية كثيرة من خلال صوته الإلكتروني. وكان هوكينج قد نشر عام 1960 نظريته الموحدة عن أصل الكون، وفي سنة 1971 أثبت أنَّ الثقوب السوداء نجوم منهارة بالجاذبية وأنه لا يمكن للكون أن يكون أزليا أو دائم البقاء.. وفي سنة 1974 أثبت أن الثقوب السوداء تصدر إشعاعًا على عكس المعتقد آنذاك وسُمِّي هذا الإشعاع باسمه "إشعاع هوكينج".. كما نجح مع معاونه جيم هارتل من جامعة كاليفورنيا في تطوير نظرية اللاحدود للكون التي غيرت من التصور القديم للانفجار العظيم وأثبتت إمكانية حدوث أكثر من كون في الأزمنة السحيقة. وبالإضافة الى كونه أفضل نموذج للتغلب على مشاكل الإعاقة يعد هوكينج حاليا أحد ألمع علماء العصر الحديث ويلقب ب "العقلية الفيزيائية الثانية بعد نيوتن".. وقد نال أكثر من 15 مرتبةَ شرف علمية، والعديد من الأوسمة والجوائز العالمية، إضافة إلى عضويته في الجمعية الملكية، وجمعية العلوم الوطنية. المدهش أنه رغم كل هذه الإنجازات لا يقدم نفسه كدكتور مثل "اللي انت خابر"!