لا شك أن الانتشار الواسع في استخدام اللدائن أو ما يسمى بالبوليمرات أحدث نقلة نوعية في عصرنا الحاضر وجعله يتميز عن العصور الأخرى التي مر بها الإنسان منذ نشأته الأولى. إن سيطرة هذه المواد ودخولها جميع مجالات الحياة يجعلنا نتذكر مراحل الزمن المختلفة التي مر بها الإنسان. فالعصور الجيولوجية تمتد امتداداً سحيقاً في تاريخ كوكبنا وربما تتحدث عن بيئة تكونت وتطورت منذ ملايين السنين ولكل عصر مميزاته وخواصه، وعلى أية حال فأنا لن أتحدث في هذا المقال عن الأحقاب الجيولوجية ولكن سوف استطرق إلى العصور التي مر فيها الإنسان وتطور من خلالها من عصر إلى عصر والتي يمكن أن تقسم إلى العصر الحجري، والعصر الحديدي وعصر المتبلمرات وهو عصرنا الحاضر، وقد تم التحول من كل عصر إلى العصر الذي يليه نتيجة اكتشاف كيميائي، وحيث أن لكل عصر من هذه العصور كيمياؤه الخاصة به، ففي القديم كان هناك زمن أو عصر يصنع فيه الإنسان كل شيء يحتاجه من الحجارة بداية من رؤوس السهام إلى الكراسي ذات المساند ومن أدوات الصيد إلى أدوات الطبخ إلى أدوات الدفاع عن النفس إلى غير ذلك من الأدوات، ومن المعالم الأخرى لتلك العصور الماضية أن الكهوف كانت مكيفة فهي المسكن والمأوى إن وجدت، ولذلك فقد سمي ذلك العصر بالعصر الحجري، ولحسن الحظ فإن ذلك العصر قد انتهى منذ عدة آلاف من السنين حين اكتشف أحدهم كيفية تحويل أكسيد الحديد إلى معدن الحديد باستخدام الكربون كعامل مختزل وهي عملية كيميائية معروفة الآن، وطبعاً فإن رجل الكهف الكيميائي هذا والذي كان السبب في ذلك الاكتشاف العظيم والذي يملك حقوق براءة الاختراع للعصر الحديدي لم يكن متعلماً في معهد ماستشوستس للتكنولوجيا (MIT) أو جامعة كمبرج أو جامعة شيكاغو، أو جامعة الملك سعود إلا أن ذلك الاكتشاف الكيميائي العظيم قد غير طريقة معيشة الناس تغيراً جذرياً وأدى إلى تحول في أسلوب الحياة حيث أصبح هناك أنواع مختلفة من المصنوعات الحديدية مثل السيوف والمحاريث والرماح وأدوات الطبخ والدروع، ولك أن تتخيل تلك النقلة النوعية في الحياة وردود فعل الناس المنتمين إلى العصر الحجري عندما حملوا السيوف أو ارتدوا الدروع لأول مرة. وقد أطلق على تلك الفترة التي بدأ فيها الإنسان يستعمل الحديد في حياته اليومية بالعصر الحديدي ولك أن تتخيل رحلة التحول من العصر الحجري إلى العصر الحديدي وما عناه ذلك من تقدم ورفاهية لأولئك الناس وما قدمه ذلك الاكتشاف الكيميائي من تسهيلات. والآن ونحن نعيش حضارة العصر بكافة أبعادها وتسهيلاتها عليك ن تستعد لدخول عصر جديد فالكيميائيون قد بدأوها مرة ثانية وأحدثوا ثورة في مجال صناعة المتبلمرات، وعليه فإن علينا هذه المرة ونحن على وشك الدخول إلى عصر المتبلمرات أن نستعد لما بدأنا بالفعل نعايش بوادره. وقد يعتقد بعض الناس مثلي ومثلك أننا قد وصلنا ودخلنا ذلك العصر فعلاً وذلك لأن قميصك مصنوع من البولي استر وحقيبة الملابس مصنوعة من البولي فينيل وزجاجة اللبن مصنوعة من البولي ايثيلين، كما أننا نسير وننام على سجاجيد مصنوعة من البولي بروبيلين ونجلس على أثاث مصنوع من البولي ستيرين وسيارتنا تسير على إطارات مصنوعة من البولي ايزوبروبين، ناهيك عن أجهزة الكمبيوتر التي تتغذى باسطوانات مصنوعة من البولي أسيتات الفينيل المرنة، وما ذكر مجرد أمثلة بسيطة لما نتعامل معه في حياتنا اليومية من المتبلمرات، وما خفي واستخدم في الأمور الأخرى أكثر وأعظم. وقد ازداد إنتاج المتبلمرات خلال العقود الأربعة الماضية بصورة كبيرة جداً فقد تضاعف إنتاج المتبلمرات في الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها خلال الأربعين سنة الماضية بأكثر من مائة ضعف وفاق حجم انتاجها من المواد المتبلمرة منذ عام 1980م حجم ما تنتجه من الحديد. والسؤال هل هذا هو نهاية المطاف؟ والجواب بالطبع لا، فما زلنا في انتظار ما هو أفضل. ولا نبالغ إذا قلنا إن المسمار الأخير في نعش العصر الحديدي قد بدأ تثبيته فعلاً، فالمواد التي كانت تستخدم في بناء الجسور قديماً أو في صناعة السيارات القديمة قد تبدو وكأنها الحصن الأخير للعصر الحديدي، وبداية عصر اللدائن التي تصنع من البتروكيماويات بشكل واسع. والسؤال الثاني هل يجرؤ أحد أن يقترح أن المتبلمرات تستطيع منافسة الحديد؟ والجواب ربما يكون لا لا يوجد أحد باستثناء الكيميائيين. وفي الحقيقة فإن المنافسة بين المتبلمرات والحديد قائمة لكن الحديد بدأ يخسر الرهان فالحديث يدور الآن حول سيارة مصنوعة بالكامل من البلاستيك، وأنا وأنت نستخدم ونسافر على طائرات تجارية بها أجزاء كبيرة من الهيكل مصنوعة من المتبلمرات المتراكبة أحدها هو بولي (ترنثال أميد البارافينيلين) وهذا البوليمر له قوة شد أعلى قليلاً من الحديد وهو ينافس الحديد في المجالات التطبيقية التي تكون نسبة القوة إلى الوزن هامة جداً مثل صناعة الطائرات. إن هذا المتبلمر على الرغم من اسمه الصعب والثقيل له نسبة قوة إلى وزن تفوق الحديد ستة أضعاف ولكي نفهم هذه الميزة ونقدرها يجب أن نعلم أن خفض رطل واحد من وزن هيكل الطائرة يقلل من وزنها عند الإقلاع عشرة أرطال، وعليك أن تحسب التكاليف الأخرى التي يمكن توفيرها عندما يخفض وزن الهيكل عشرات الأرطال. ولصعوبة التعامل مع الاسم العلمي لهذا البوليمر فقد أطلق عليه اسم تجاري أسهل وهو كفلار Levlar وهو الان يستخدم في صناعة أجزاء الذيل لأضخم الطائرات التجارية، ليس هذا فحسب بل بأنني لا أبالغ إذا قلت إنه الآن يستخدم في صناعة الدروع الواقية من الرصاص أيضاً. والآن دعنا نعود إلى تلك السيارة المصنوعة بالكامل من البلاستيك ونقول بالطبع إن خفض الوزن هو أساس اللعبة في محاولة بناء سيارة اقتصادية في استهلاك الوقود وأقل تكلفة كما أن ذلك يساعد على التخلص من مشكلة التآكل. ومن الجدير بالذكر أن ذلك لا يقتصر على هيكل السيارة فقط بل يتعداه إلى أجزاء رئيسية من محركاتها مثل محور التحويل فهو مصنع من المتبلمرات المقواة بألياف صلبة كما أن هناك متراكبات مشابهة تستخدم في صناعة يايات ومفصلات الأبواب. ولا أبالغ إذا قلت إن السيارات الأمريكية تحتوي على أكثر من خمسمائة رطل من المتبلمرات (بلاستيك) بما في ذلك الدهانات واللواصق والاطارات والمشحمات والمفروشات، فما بالك بالسيارة اليابانية وغيرها!. والمستقبل يحمل في طياته الجواب على كيف سوف تستخدم تلك المتبلمرات في صناعة محرك السيارة ومنظومتها الكهربائية. والسؤال الثالث هو هل سينتهي الأمر إلى هذا الحد أم أن هناك مزيداً؟ بالطبع ما تم ذكره ليس إلا أمثلة بسيطة لما نشاهده من واقع الحياة المعاصرة ولكن استخدام المتبلمرات أبعد وأوسع وأعمق مما ذكر. فليس هناك شيء من أدوات الاستخدام إلا ودخلت المتبلمرات في صناعته حتى الخيام المقاومة للاحتراق مثل تلك التي تستخدم في المشاعر المقدسة والتي هي عبارة عن متبلمرات ذات فاعلية عالية في مقاومة الحريق، ولم يقتصر الأمر على ما ذكر سابقاً بل تعداه إلى صناعات أخرى حيث دخلت المتبلمرات الآن في صناعة البناء مثل هياكل الجسور وواجهات المباني والتكسيات الداخلية للمنازل وأسقفها والأبواب والنوافذ وفي بناء الملاعب الرياضية والمكاتب والكراسي وفي صناعة التغليف وصناعة الدواء والأحذية وجميع أنواع الملابس والأثاث ناهيك عن المفروشات وأغلفة الأدوات الكهربائية وأدوات المطبخ وهياكل الأجهزة المنزلية ولعب الأطفال وأدوات الزينة والأكياس ذات الاستخدامات المختلفة وأرفف المكاتب والمطابخ وفي تعبئة المياه وصناعة الأنابيب.. وحدث ولا حرج، إن التقدم الكبير في مجال الصناعات البتروكيمائية فتح الباب على مصراعيه في مجال صناعة البوليمرات وأحدث نقلة نوعية في انتاجها واستخدامها وبالتالي تسويقها وتصديرها كمنتجات نهائية ذات عوائد مجزية مقارنة بالمواد الأولية، فالأبحاث ما زالت قائمة على قدم وساق وكل يوم تقدم لنا المختبرات ومراكز الأبحاث المزيد من المتبلمرات الجديدة ذات الخصائص الفريدة والمزيد من التطبيقات والاستخدامات التي لم تخطر على قلب بشر عاش قبل عدة عقود من السنين وما سوف يكشف عنه المستقبل ربما يكون أكثر مما تم الكشف عنه حتى الآن. أليس هذا بحق هو بداية عصر المتبلمرات على أن المأخذ الرئيسي على استخدام المتبلمرات في شؤون الحياة المعاصرة هو قدرة تلك المركبات على البقاء مما سوف يشكل تهديداً أكيداً للبيئة ولذلك فإن عصر المتبلمرات يجب أن يكون مقروناً بأبحاث مكثفة عن كيفية التخلص من النفايات المترتبة على ذلك الاستخدام الواسع الانتشار، وعن إمكانية تدويرها، ونحن هنا يجب أن يكون لنا استقلالنا العلمي ونقوم بأبحاثنا الخاصة على تلك المواد المستخدمة في الحياة اليومية من مأكل وملبس ومشرب ودراسة آثارها الجانبية والأخطار الصحية المترتبة على استعمالها ووضع المواصفات القياسية للمصنع منها والمستورد وإلزام البائع والمستورد بتلك المواصفات، فصحتنا وصحة أبنائنا هي أهم وأغلى ما نملك. نعم نقول ذلك وقد أصبحت مملكتنا الحبيبة مركزاً وقبلة للصناعات البتروكيميائية والتي أصبح لها مركز الثقل في تلك الصناعة وإدارتها داخل المملكة وخارجها. وبالطبع لابد من المحافظة على الريادة في هذا المجال والعمل على أن نتحول من منتجين للمواد الأولية في الصناعات البتروكيميائية إلى تصنيع تلك المواد الأولية وتحويلها إلى منتجات نهائية تدر علينا عوائد مجزية أكثر مما تدره علينا المواد الأولية التي نبيعها إلى الآخرين فيحولونها إلى منتجات نهائية ثم يعيدون بيعها لنا بأسعار مضاعفة ولا شك أن هذا التوجه له أهمية استراتيجية كبرى، لذلك يجب على الجهات المختصة أن تقوم بتحديد نسبة من التراخيص التي تمنح لإنشاء مصانع بتروكيميائية لغرض تحويل المواد الأولية التي تنتج محلياً إلى مواد نهائية تستعمل مباشرة في الأغراض الصناعية المختلفة بحيث يتم تصديرها واستخدامها محلياً كمنتج نهائي. كما أن الشركات البتروكيميائية الكبرى مثل شركة سابك مندوبة إلى الاستثمار في مجال تحويل بعض منتجاتها الأولية إلى منتجات نهائية وبذلك جنباً إلى جنب مع توسعها في مجال الصناعات البتروكيميائية الأولية والوسيطة. خصوصاً أن كثيراً من تلك الصناعات تصب في خانة إنتاج اللدائن الواسعة الاستخدام ناهيك عن أن الدول الأخرى المصنعة للبتروكيماويات الأولية لم تتجه حتى الآن إلى تصنيع المنتجات النهائية لمنتجاتها الأولية والوسيطة والله المستعان. [email protected]