العم (عبداللطيف) مواطن من هذه الأرض، سعودي الأصل والولادة والمنشأ والإقامة والحياة والانتماء، انتظم في السلك الوظيفي مثل غيره من الموظفين الحكوميين، وأمضى زهرة شبابه وفترة كهولته في خدمة وطنه من خلال وظيفته مثل غيره من الموظفين، واستطاع براتبه فقط، وبحنكته وحسن تدبيره أن يصل بأسرته إلى بر الأمان، وعندما حان أن تودعه الوظيفة ترجل بالأريحية كلها مثل غيره من الموظفين الذين داهمهم التقاعد، غير أنه لم يتعلق الوظيفة، فلم يطلب التمديد ولم يقدم التماساً للتعاقد معه مثل كثير من الموظفين، ومضى -مكتفياً براتبه التقاعدي- في تسيير شؤون حياته وتيسير أمور أسرته. أَكْتَفِي الآن بهذا التقديم وسأنصت إلى العم عبداللطيف في نقل ما حصل له في هذه الأيام وهو يحمل على كتفيه ما يقارب أربعة وستين عاماً.. يقول العم عبداللطيف: بينما كنت منفتلاً بفقرات حياتي، أرتب ما تخالف منها، وأعيد انتظام ما انفلت، وأعالج ما اختل توازنه، وأشد من أزر ما تَرَدَّى.. مقتنصاً من الوقت ما أحظى فيه بتأمل ذاتي وسيرة حياتي وما حولي متلذذاً بقول الشاعر: (ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها) فوجئت برسالة عبر الهاتف الجوال من المؤسسة العامة للتقاعد تقول ما مفهومه: (سنقوم بإيقاف الراتب إذا لم يتم تغيير مهنتك إلى متقاعد)! طيب.. إلى هنا -والحديث ما زال للعم عبداللطيف- الأمر لاغبار عليه وليس هناك من إشكالية؛ فقد تكون هناك إجراءات قانونية لا بد من اتخاذها، غير أن الإشكالية الحقيقية التي لم أتوصل حتى الآن إلى معقدها هي ما حصل لي (في إدارة الأحوال المدنية)، فبعد أن ارتعدت مئة مرة أمام تهديد مؤسسة التقاعد ذهبت مسرعاً إلى مقر عملي سابقاً، فمنحوني كتاباً موقعاً مختوماً موجهاً إلى إدارة الأحوال المدنية يفيد بأنني متقاعد وأنه لم تعد لي أي علاقة بالعمل الحكومي من قريب أو بعيد.. فجئت بهذا الكتاب فرحاً مستبشراً وكان حلمي وتصوري هكذا: (أن يستلم موظف الأحوال الكتاب ومعه الهوية ويقوم مباشرة بتغيير المهنة ثم أعود إلى بيتي بهويتي وبالأمان من إيقاف راتبي) إنما الذي وقع عليّ وقوع الصاعقة كان هكذا: (وقف أمامي موظف شاب [بالكاد] يبلغ العشرين وقال لي: يا عم هذا لا يفيدك الآن إذهب أولاً واحجز موعداً عبر موقع الأحوال في الإنترنت) قلت له: يا ولدي أنا قليل المعرفة بالإنترنت وليس لدي طابعة وهذا كتاب العمل معي فما المانع من أن يتم الأمر الآن باليسر والتسهيل؟ وبدلاً من أن يرد عليّ انهمك في الجهاز الذي أمامه وتركني أستدير صوب بوابة الخروج بين نظرات عشرات المراجعين الذين احتشدوا متراصين في طوابير مخيفة ينتظرون ساعة تغيير المهنة! والآن - والكلام ما زال للعم عبداللطيف - لي ما يقارب الشهر وأنا أحاول أن أحجز موعداً عبر الجهاز فلا أستطيع، وذلك أن الأحوال المدنية -عفا الله عنهم - قد وضعوا ضمن برنامج الدخول إلى البوابة فقرة غريبة، يطلب فيها من المتصفح إدخال رقم باللغة الإنجليزية، وفي كل يوم أقوم بإدخال الأرقام في محاولة لتسجيل الرقم الصحيح فلم أفلح، حيث تظهر على الجهاز هذه العبارة:(القيمة المدخلة غير صحيحة)، فأشعر بغصة تقف في أول الصدر.. وعندما اتصلت بالرقم المجاني طلباً للمساعدة رماني الموظف في بحر ليس له قاع، وقال لي:(يا أخي: غَيِّرْ المتصفح)، وبدلا من أن أكون أمام إشكالية واحدة صرت أمام إشكاليات عديدة والآن نحن في الشهر الذي تهددنا فيه المؤسسة العامة للتقاعد بإيقاف الراتب، أقول ذلك وأسجل لديك هذه الشكوى وأنا إنسان متعلم وأتعامل مع الحاسوب، فما بالك بمن لا علاقة له بهذه الأمور؟. انتهى إفصاح العم عبداللطيف الذي كما اتضح يحفر الصخر بأظافره ليطبق النظام، ولينفذ ما طلب إليه، وليقوم بواجبه، وليحفط ماء وجهه أمام ربه أولاً ثم أمام ذاته وأسرته، فلماذا يقهر ويسام سوء العذاب؟ ولماذا يوضع أمام أمر يعجز عن حله وفك شفرته؟ ولماذا يلقى به في اليم مكتوفاً ويقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء؟! وأنا هنا - فيما يتعلق بهذه الإشكالية تحديداً- سألقي بهذا السؤال في وجه الأنظمة المتكلسة: (يا ناس.. ياعالم.. لماذا يؤخذ رأي الموظف أصلاً في هذه المسألة؟ لماذا بمجرد أن يتقاعد لا يذهب كتاب تغيير المهنة مباشرة إلى الأحوال المدنية، وتذهب نسخة منه إلى مؤسسة التقاعد وينتهي الأمر؟ هذا هو الجزء الأول من معاناة العم عبداللطيف، وفي الحلقة المقبلة سنعرض الجزء الآخر من معاناته مع قطاع آخر ربما تكون أكثر إيلاماً، والله المستعان.