السوط يذل الطالب لما درسنا الابتدائية سُلّط علينا أساتذة جلاّدون فضربونا بالعصي ضرب غرائب الإبل، وكان بعض الآباء يشجعونهم على هذا الصنيع، ويقول أحدهم للأستاذ: لك اللحم ولنا العظم، بل تبرع بعض الآباء بإحضار العصي للأستاذ من الخيزران والشوحط والتين والسدر، فإذا غلط الواحد منا غلطة صغيرة قام الأستاذ الجلاد فجلده ونكّل به وشهّر به وكسر رجولته أمام زملائه، وأذكر مرة ونحن في الابتدائية أن طالباً غلط غلطاً ما فأخرجنا مدير المدرسة جميعاً وجلد الطالب أمامنا، وشهّر به، ففر الطالب من المدرسة إلى الآن ومنذ أربعين سنة وهو فار، فخسر مستقبله بسبب هذا الموقف الحقير البائس، فإذا دخل الأستاذ الجلاد حيّنا هربنا منه واختفينا وراء الجدران والحيطان، وإذا حضر مناسبة غبنا عنها وإذا رأيناه يمشي في الطرقات فررنا من طريقه: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ» وكان الأستاذ الجلاد أثقل علينا من الحمّى، لا نفهم درسه ولا نحب شخصه ونتمنى موته فرح إذا انتهت حصته، أما الأستاذ المربي اللبيب القريب اللين الرفيق وهذا نادر فيهم فكنا نعشق مادته ونحيي قدومه ونرحب بطلعته ونفهم كلامه ونحترم مقامه، فيا أيها الأساتذة والمربون إن السوط لا يصنع رجالاً ولا أبطالاً، ولا يخرج أجيالاً، وإنما ينتج قطيعاً هائماً من البلداء والحمقى والمغفلين الذين أُهينت كرامتهم في طفولتهم، وكُسرت رجولتهم في شبيبتهم، وقد اعترض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على الجلادين، وأتى بجلاد من الأمراء فبطحه أمام الناس وجلده إذ إن محمد بن عمرو بن العاص ابن أمير مصر جلد قبطياً سبقه بفرسه فشكا القبطيُّ الأميرَ إلى عمر، فأحضر عمرُ محمدَ بن عمرو وجلده وقال له: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟» أيها المعلمون ارفعوا السوط وألغوا «الفلكة» وأساليب التعذيب وطريقة محاكم التفتيش، فهي سراديب مظلمة تدل على مرض النفس وعدوانية الروح وطغيان الإنسان المفترس، واسلكوا سبيل محمد بن عبدالله رسول الهدى الذي دعا بالحكمة وعلّم باللين ونصح بالرفق فقال له ربه: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، فدخل الناس في دين الله أفواجاً وحفّت به القبائل، وشيعته الأرواح، واتبعته الأجيال، ورضي بدعوته الملايين، أما أهل العنف والقسوة فهم نكرات في صفحات التاريخ، ونقط سوداء في لوحة المجد البيضاء، وسوف يلفظهم الناس وتشطبهم الذاكرة وتمقتهم القلوب، يقول الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) ترفقوا بأطفالنا، ارحموا أكبادنا، احرصوا على قلوبنا، إياكم وإذلال جيل المستقبل، وتحطيم رجال الغد، وتمريغ كرامة حفّاظ المبادئ، وإهانة أحفاد الفاتحين، واتركوا الأساليب المهينة المنبوذة العدوانية للجلاوزة والطغاة: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ». إن الرقابة على الأستاذ الجلاد والمعلم الجبار مطلب شرعي وحق إنساني، وإن من الجميل أن أدرك القائمون على التعليم أن جلد الطالب مذهب سقيم، وأن ضربه مسلك عقيم، فبدؤوا يمنعون الجلادين من استصحاب الهراوات والعصي والسياط في المدارس، وإن الأستاذ المحبوب المهاب لا يحتاج إلى كرباج بيده فوقفته إجلال، ونبرته احترام، وكلمته تأديب، وخُلُقه مثلٌ عليا كما قال البوصيري في سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: كأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جلالَتِهِ ------- في عَسْكَرٍ حينَ تَلْقَاهُ وفي حَشَ الشيخ / عايض القرني الشرق الأوسط