لكل فرد منا طموحاته وأحلامه , واهتماماته وميوله , وقيمه وثقافته , وغالبا ما يحركنا ويحدد سلوكياتنا هو ما نحمله داخلنا من معتقدات نشأنا عليها , وتربينا على تنفيذها بطريقة شعورية أو لا شعورية , ومنها ما هو موروث كعادات المجتمع وتقاليده ومنها ما هو مستحدث بسبب العادات والقيم الدخيلة والوافدة من المجتمعات والثقافات الأخرى. و باعتبار أن مدينة مكةالمكرمة هي مقصد المسلمين الأول , والتي تعد مركزا إسلاميا وتجاريا واقتصاديا هاما , وإلى جانب ذلك فهي مركز اجتماعي ذو أهمية بالغة وله دوره القيادي والمؤثر في المجتمع السعودي , فليس هنالك مدينة في العالم تستوعب الكم الهائل من الثقافات المختلفة في وقت واحد ومكان واحد كما هو الحال في أم القرى. ففي مواسم الحج والعمرة وعلى مدار العام تجد مكة تعج بالوافدين من شتى أقطار الأرض ومن مشارقها ومغاربها , ولكل منهم ثقافته وعاداته التي نشأ عليها واقتبس منها ممارساته اليومية الداخلية والخارجية. و لتحقيق التمكن من التعامل مع الوافدين والزائرين لهذا البلد الكريم ؛ جرت العادة بأن يخالط أهله هؤلاء الوافدين ويتبادلون معهم ثقافاتهم ولغتهم تحقيقا للتواصل والترابط الذي يعكس مدى العمق الإنساني في أهل هذا البلد الطيب , فنجد حتى اصغر أبنائهم ينطق بغير لغته ويجاري الوافد ليفهم ما يقصده وما يرمي إليه , ويسعى معه ليدله على مكان إقامته أو على المكان المناسب ليأخذ حاجته منه مثلا. وتظل أم القرى (مكة) ورغم ما تحمله من مكانة عظيمة وقدسية ثرية إلا أنها كغيرها من المدن التي ما زالت تحتاج الكثير والكثير من أهلها ومحبيها حتى ترتقي نحو الأفضل في كافة النواحي والمجالات. هذا وإن المدينة الفاضلة التي يحكي عنها أفلاطون الفيلسوف اليوناني في كتاباته الشهيرة ؛ ثم حكى عنها حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاباته الرائعة ؛ ما هي سوى مدينة سادت فيها القيم والأخلاق , واستأثر سكانها القانون والحكمة في معاملاتهم وحركاتهم وسكناتهم , وساد فيها الحب والإيثار والتضحية والتفاني والتعاون والتآزر والكرم والشجاعة والإخاء , وغير ذلك من المعاني والأخلاق القيمة التي يتبادلها الناس فيما بينهم ومن ثَم بهم تصبح مدينة خالية من المشكلات الاقتصادية والسياسية والدينية والتعليمية , والمخالفات الإدارية والاجتماعية وغيرها. وهي ببساطة مدينة يسود فيها الصالح العام بعيدا عن المصالح الشخصية والقناعات الذاتية الفردية والمتطرفة , وهي مدينة أخذت من العدل والسلام مبدأ تحاكي به الأجيال في كل زمان ومكان. و لما كان الوصول لتلك المثالية في التعامل بين الأفراد مسألة نسبية أقرب للخيال من الواقع ؛ إلا وأن المدينة الفاضلة تظل حلما يراود سكان كل مدينة في هذه البسيطة , فلكل منا مشاكله وهمومه التي تجعله يستغرق في التفكير والتدبر والإجابة على السؤال المشهور الذي يبدأ بعبارات ( لو كان كذا... لكان كذا ؟ ). ونظل أولا وأخيرا بشراً ممن يتأملون بان تصبح مدينتهم ذات يوم مدينة فاضلة رغم كل ما يجوب فيها من أمور وعوائق وقضايا ومشكلات. والسبيل إلى ذلك يبدأ بتأطير أصول التعامل بين الأفراد في المجتمع فيما بعضهم البعض ومع من يأتون إليهم من وافدين وزائرين. والاعتراف بحقوق الإنسان طفلاً كان أو شاباً أو ربما كهلاً قد اخذ منه الزمان ما أخذ , وجُل ما يضمن للأمة شرفها وكرامتها وفضيلتها هو التمسك بالأصول لا القشور والعمل بإصلاح الداخل ثم الخارج , والسعي مجتمعين ومفترقين إلى الرقي الذاتي والاخلاقي والاجتماعي حتى نضمن بإذن الله رقي الوطن وازدهار الحياة. وقفة لنرتقي : قال تعالى في محكم كتابه العزيز : (إنَّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسِهِم) سورة الرعد – 11.