الخيال السابح على مُتون الريح يتجسَّد في الأشياء،ويتماهى مع الأطياف ويُسافر بالفكر إلى عالم المكنون يُضيءُ مراحل النظر ليبقى شاهداً على انبثاقات القُدرة للتّفريغ من امتلاء العقل بشُحنات الأسئلة المُتْعبَة من تفاعُلات وانفعالات النفس،المنتصرة حيناً،والمهزومة أحياناً , فلا تلبث أن تُحاصرك الأسماء والأشياء ويدفعك الإغراء ويُريبك اللقاء في زحمة التّضاد حين تكون أنت أحد المختلقين لقوافل التّمرد الخلاَّق على مدِّ شواسع الفكر المُتَفقِّه في علم الكون،وحين تنوء بالعجز وتنبهم عليك الرؤى ، يُخالجك الخذلان فيزداد شعورك باليأس والقنوط،وتنتفض رغباتك بعدم الرضى،وتتغير قسمات وجهك فتبدو منقبض السمات وتزداد نبضات قلبك إذ يتسارع تدفق الدَّم إلى المخ وترتجف أعضاؤك ويُخيِّم عليك إحساس بالتوتر والانفعال الذي يُصيب بالهمِّ والغمِّ أو الكآبة كالغيم الجهام أو كالغيظ المكظوم في الفؤاد،حتى تسِحُّ عبرات القطر فتخصب جدب نفسك وتُحسُّ بالأمن يهمس إليك بأنك نزيل الراحة وقد ذهب عنك الكدر،وها أنت تنعم من جديد بطرد اليأس لتعاود الامتلاء بالسعادة،فتبتسم بعد التّجهم والحزن لتعود إلى الأُلفة والأُنس،كأنّ بؤسك كان هالة دخان تلاشت في غَيابات الفضاء،وعندما يُخيَّل إليك أنك استعدت حيويَّة العمر من جديد يعاودك الشجن يرمي بشرر كالقصر تحاول أن تتفلَّت منه،تحاول أن تهرب من ذاتك لتدخل إلى ذات أُخرى ترى عليها أسارير البهجة فتظن أنَّها ما مرّ بها الهم وما استرقَّ قلبها الغم فلا تستطيع النفاذ أو تبديل نفسك بنفس أخرى،وما عليك إلاَّ أن تحمل وجدك وهمَّك وتعبك وألمك وحدك،ولن يستطيع أحدٌ أن يبادلك فرحهُ أو ترحهُ لأن للإحساس خصوصيَّة التفرد بنوعيَّة الكبد الذي لا يُغادر نفساً إلاَّ تفنَّن في تبريحها وتقريحها وتجريحها. لقد عرفت في دهري أن النفوس طرائد الزمان والمكان , صَيَّادُها الهم،وسلوانها يكون في هجعة المنام الذي يُنسي لفترة هول الفجائع النفسيّة ثم تصحو على قَدرٍ مقدورٍ،وعمرٍ مأسورٍ،ما بين أتراح وسرور , فلا يوجد من أحصى حالات الفرح أو التَّرح في حياته،ولا من عرف تفوّق أحدهما على الآخر لاستحالة القدرة والتّقدير،وإمتناع العقل عن التذكر والتذكير بما يُلِمُّ بالقلب من حالات العبوس والتَّكدير،ولحظات البهجة والتيسير،فحاول أن تكتب في يومك ما اعترضك في الحالين بدقةٍ وداوم عليه إذا استطعت لكل سنِيِّ عمرك،تجد نفسك عاجزاً عن التدوين لسرعة انقضاض الأحداث على الأحاسيس وتباين أوقاتها وحروفها وظروفها وأسبابها واشتعالها وانطفائها وثورتها وخفوتها،فاسكن للعجب وتوسل بالصبر على احتمال الرَّهب وغلبة التّعب،وخذ دنياك على عِلاّتها واسلِم لها قيادك،واستسلم لفطرتها،واعمل على المجاهدة للنوال لإشباع جوعك وإرواء عطشك،وتسكين روعك وإلا انقلبت عليك دنياك ويلاتٍ وحسراتٍ داهِيَة. لا تقل كيف انهزمت إذا كان قدرك الهزيمة ؟! ولا كيف انتصرت إذا ما حالفك النّصر؟ ولا كيف افتقرت إذا كُتب عليك الفقر ؟ ولا كيف اغتنيت إذا صاحبك الغنى ؟ حاول أن تكون قارئاً لصفحات كتاب قدرك تعيساً أم سعيداً،ولا يحزنك أنك تستنبت المثل والقيم والكفاءة،ثم تصطدم بالخيبة،وتمتليء بالنَّدم والأسف حين تأتي التوقُّعات على عكس ما كنت تأمل،لترى الأسباب رافعة لمن ليس أهلاً للرفعة،ولكنّه يغتصب بالقوة سوانح الغفلة،ويحتال بالوسائل حتى يبلغ السيفين والنَّخلة،ليكون فيه القادر والقدرة،والفطين والفطنة،والمكين والمكنة،فلا تبتئس عندما ترى الحقير والجهول والنهوم وهم فوقك يعتلي بهم الشأن،ويحفل بهم الزمان والمكان،ويغدو لهم عليك سلطان،بل ابتسم بسمة الساخر من البهتان،وأطلق العنان لخيول فكرك لتجوب مدائن الهوان،فستجد فيها من كل عذاب وشقاء وظلم وبأس وآلام وأشجان أشكالاً وألواناً تُعزِّيك عن بلواك،وتغنيك عن شكواك،لتتغلَّب بالسلوان على دنياك. حاذر النقمة والانتقام من الزمان وأهله لأنَّه كُفْرٌ بالرضى وخسارة مضاعفة,فإذا ضاعت الدنيا فالآخرة خيرٌ وأبقى،فأنت لا تدري خيرك في أي الدارين,وحين يتملَّكُكَ اليأس والضَّجر تذكَّر العافية فليس يعدلها شيء مهما علا وغلا,فبالصحة أنت الغاني عن السؤال،وأنت الغَنِيُّ بالعمل والنّوال,وإذا احتكمت إلى الحكمة ترى أنَّك وأغنى الأغنياء سواء،فالغنِيُّ لا يزيد عليك إلاَّ بقدر الوهم,والأموال ما هي إلاَّ أرقام مودعة في البنوك منها الحرام الذي يجلب الشقاء والعذاب في الدنيا والهلاك في الآخرة،ومنها الرِّزق الحلال الذي قسمه الرَّزاَّق،فاعمل ولا تَكلَّ ولا تَملَّ ولا تكسل,وارض بما قسم الله لك تعش هانىءَ النفس مُرتاح البال والضمير،ولا تَعْدُ عيناك إلى نصيب الآخرين فأنت لا تعلم أيعيشون سعوداً أم نحوساً ؟ ولا تخدعك المظاهر عن الدخائل فربما تكون أنت في حال تُحسد عليه من الغير بسلامة نفسك،وسلامة أبنائك،وسلامة دينك من الذنوب والآثام وتكون من المصطفين الأخيار. أشغل النّفس بالطاعة والعمل حتى لا يكون الفراغ سبباً لدائك،ولا تنسى أن تكتب اسمك في كتاب الزمان بما يترك لك حسن الذكر وفخر الأبناء والنسل والإخوان،وارسم على صفحات الحياة صورة مجدك بما يُبدعه فكرك،وكن رقماً ولا تكن صفراً وكأنك دخلت وخرجت فلم تُحدث أثراً يشهد لك به الزمان والمكان. امدد يدك بالخير والكرم ولا تضن بها على المحروم والمعسور,وابذل للضعيف والفقير والمسكين،فإن سعادتك تكمن في إقالة عثراتهم،واصنع البسمة على شفاه الحيارى والمكلومين والمحزونين تعش عزيزاً ما حييت. واسمع ما قالته الحياة حين سألتها،كيف تُبدل المحبين ؟ وكيف تُغيِّر النفوس ؟ أجابتني لقد أحسنت الظَّن بي أيَّها الطيِّب البريء ولم تكن تعلم أنني أُقلِّب القلوب,واجلب الخطوب,وانكِّب الدروب,فإذا خاب ظنّك بيَ اليوم فإن طبعي أن أخيِّب ظنَّ الطالب الدَّؤوب,وحين يُخيَّلُ إليك أني ابتسم فعليك أن تحتذر فإني أُكشِّر عن نيوبي لكي أفترس وألتهم،وعندما أُعطي فاعلم انني استرد ما أعطيت,فلا وفاء لي ولا حُبَّ عندي,ولا شفقة لدي،فكان ذنبك أنك لم تعرفني فوقعت بحسن ظنك في سوء فعلي,وليس لك إلاَّ أن تُسايرني فاني أنا الحياة لا أمان لي ولا عهد عندي،فإمَّا أن تتعلَّل بالصَّبر وإلا حملتك إلي أعماق القبر،أنا هكذا فلعلَّك عرفتني وعرفت فطرتي،فتعزّى بالوحدة,واستأنس بالنجوى,وازهد في الشَّهوة والمتعة،وتجلَّد على البأس بالحمد وتوقّع الغربة والفرقة،فلا تغريك الدهور فأنا نَزَّاعةُ السُّرور,وهدّامة الدُّور،وقصَّامة الظُّهور،فإن اقتربت مني أذقتك الثُّبور وعظائم الأمور،فلا تُصدِّق أنني أرضى الحبّ,أو الرِّفق أو الصِّدق,فما تراه اليوم هو حقيقتي التي غفلت عنها،فأنا الشَّقوة,والنّزوة,والقسوة أمَّا إذا اتّبعت هواي أكون لك الغانية الجميلة،وان اعتنقت ضلالاتي أحُفُّكَ بالرَّذيلة,حتى إذا استمتعت باللذة وأمِنْتَ للَّحظةِ أخذتك غِيلة،وأسكنتك قبراً مظلماً لا خِلَّ فيه ولا خَلِيلَة،فاحذر مني،وصُدَّ عَنيِّ،تأمن نقمتي،وتنجو من فتنتي،وتكون للجنَّةِ مُبتني. من شعري : إنسانُ هذا العصر ذئبٌ كاشِرُ عن نابه , متوحِّشٌ لا يرحمُ يا هذه الدنيا أتيتُك عاتباً فيك الوفاء مطاردٌ ومحرَّمُ يا هذه الدنيا حسبتك مركباً للأتقياء فخاب ما أتوسَّمُ يا هذه الدنيا منحتك صادقاً ودّي فما أجفو ولا أتبرَّمُ يسمو الوضيعُ إلى ذراك بجهله والطيِّب الشهم النبيل يهدَّمُ يا هذه الدنيا مَلَلْتك ساخراً ومللت أياماً تذلُّ وتسقمُ فدعي سبيلي إنما أنا راحلٌ للضفةِ الأخرى أتوق , وأحلمُ وخذي نعيمَك إن تكن بي رغبةٌ فيما لديك فإن زهدي أعظمُ