لم أكُ يوماً من المبتذلين الذين يعمدون في كتاباتهم على تضمين آراء ومقولات المفكرين أو الأدباء الغربيين وإقحامهم في الشأن الثقافي العربي لكي يُغرونا بأنَّهم مستقبليون،وحضاريون،وأنَّهم قد قرأوا التراث العربي وامتلأوا حتى التَّخمه بأفكار الجرجاني،والفراهيدي،وابن طباطبا والمقريزي،وابن سلام الجمحي،وأبو الأسود الدؤلي وغيرهم من علماء اللغة والبلاغة والنقد فهؤلاء في نظرهم كلاسيكيون،(تقليديون) رجعيون لذالك فهم يسندون آراءهم حتى في أبسط المواضيع إلى ذكر سوسير،وبودلير وباشلار وفولتير،وراسين وت س إليوت وغيرهم،وما كنت معترضاً بل مؤيدٌ لتلاقح الثّقافات بين الأُمم،وإلى أهمية ذلك التواصل المعرفي لإشعال مواقد الأفكار وإضاءات العقول بإضافات إبداعيه ترتفع بالفكر الإنساني وتذكي دوافع العمل البحثي على كافة الوجوه العلميه والأدبيه،وليس من أهدافي التَّقليل أو الاستهانه بقيمة الفكر الأوربي الذي وصل في قدراته وعطاءاته إلى أعلى مراحل التفوق وقدّم نماذج مُبهره للعقل الواعي المبدع في مجالات تفوق الحصر والعد،حين صنع للحريَّه أفقاً غير محدود،وسطحاً بالتّدبّر والتفكر معموداً وممدوداً وأرى أن الاستناد والاستشهاد إنَّما يأتي على أوجه منطقيه تستدعيها البحوث العلميه والأفكار التنظيرية والآراء النقديّه التي تَمُتُّ بصله إلى طروحات فكريَّه تَمُسُّ قضيّة بعينها تتطلب تسلسل الآراء المختلفه حولها لاستخلاص نتائج تكون إضافة باعثه على الخلق والابتكار،لا أن تسعى إلى التَّغريب وإيهام المتلقي بزيف النضوج الفكري الذي يعمد إليه ثُلَّة من حملة الأقلام البيضاء والصَّفراء التي تحاول تعمية المعاني خلف السطور وفبركة النصوص للتّصفيق لِصَفَاقَاتِهِمْ التي لا يحتملُها الواقع المعاصر،وكأنَّ قدرنا مرهونٌ بأفكار الغرب للإعتراف بهوية الفكر العربي بمنحنا شهادات تُثبت بأننا تقدّميون وليبراليون وغيرها من الكلمات والتعابير (السوبرمانيَّه)،لذا يَحقُّ لنا أن نقول إنَّ من أدهى دواهي العقل العربي التَّقليد والإتباع دون إعمال العقل بالبحث والتمحيص والتجريب والدرس والتحصيل,فإذا قالوا حداثه فنحن مع الحداثه،وإذا قالوا عولمه فنحن مع العولمه, وغداً يأتوننا بمصطلح جديد ربما يكون عنوانه (لادين) فتجد له قوماً لا يؤمنون بالله يوادُّون من حاد الله ورسوله. أقول هذه مفاهيم كارثيَّه مضلَّلَه ومضلِّلَه تخرج من عبادة الله لعبادة الأفكار الغربيَّه وتدين لها بالولاء والطّاعة فقط ليرضى عنهم دهاقنة الغرب ويعطوهم القيمه الإنسانية المفقودة في ذواتهم،ولم يعلموا أن الفكر الأوروبي عندما أخذ بتعاليم وأفكار واراء ونَظريات علمائنا العرب والمسلمين الأوائل لم يأخذوها على علاَّتها وإنَّما أشبعوها بحثاً واستقراءً وقراءة وأدخلوها معاملهم ومختبراتهم العقليه بالبحث والتطبيق حتى اقتنعوا واستفادوا وأفادوا من تلك الأفكار في اصطناع الواقع الحضاري المشهود . وإن الذي دعاني إلى تدبيج هذه المقاله ما قرأته في صحيفة الوطن يوم الأحد الموافق 7/ربيع الأول 1431ه العدد (3432) بالصفحه الثقافيه تحت عنوان(قصيدة النَّثر الهيبه المفقوده،والجدل الذي لم يُحسم) في الحوار الذي أعدته الأستاذه ناديه الفواز المشتمل على عدة آراء نحترمُها في مجملها ولنا حقُّ مناقشتها بأسلوب الحوار الهادف بمنطق يُعطي للفكر القدره في تناول معطياته القابله للاختلاف الذي لا يُفسد للود قضيَّه،فلقد استَكتبت الأستاذه ناديه الفواز الأساتذه المعنيين بمحاورة ما يُسمى بقصيدة النثر،أذكر خلاصه آرائهم التي قالوا بها وأبدأ من حيث بدأت مُعدَّة الحوار بالدكتور فواز اللعبون وأُلخِّص رأيه الذي يتضمن بأنَّ الإشكاليَّه تقع في محاولة تجنيس ومُزاوجة أنواع الفن بعضه ببعض،وهو يرى أن تنطلق جميع الفنون ضمن أُطرها،ولا يجوز إقحام ما يسمى بقصيدة النثر في مفهوم الشعر المتعارف عليه،وهذا رأي منطقي وعقلاني وصاحبه يملك رؤية عميقه تُسجِّل له حضوراً وخصوصية فكريه تُجسِّد الاستقلالية المؤثرة لا المتأثرة بمقولات ومزاعم تفرضها آراء تحاول الهيمنة على العقول لتصطدم بجسور الرفض القائم على القراءة والتحليل والاستنباط والاحتكام إلى التراث،ليكون التجديد ضمن معايير عقلية لا تخرج عن أخلاقيات المِلكيَّات الفكرية لحقوق تعارفت عليها الأمم بأنها حقوق مُكتسبه لمن أبدع ذاتها ومُسمَّياتها التي توارثها الجنس العربي المعاصر،ولم يكن له يد في اصطناعها أو تسميتها,لذلك فمجرد المساس بشروط وقفيَّتها يُعَدُّ عبثاً يؤاخذ عليه كل مُبتدع في صك مِلكيَّة تلك الحقوق،فالشعر مُصطلح خاص لأُمَّة أورثت لأجيالها المتعاقبه هذا المُسمّى (الشعر)،وهي التي قنَّنت مفاهيمه وأشكاله،فبأي حقٍّ يجوز تغيير منهجه القائم عليه ، ونَصِمُ الشعر العربي الفصيح بما يُسمَّى بقصيدة النثر؟ . ثم نأتي على الرأي الثاني للأستاذه تُركيَّه العمري التي قَدّمت رأيها الخاص لمفهوم الشعر المبني على الطقوس الُمستفِزَّه للحاله الشعريه تاركة للمتلقي حُرِّيَّة التأويل,غير أنّها لم تُبد رأياً صريحاً حول قصيدة النثر وكأنّها تركت رأيها عُرضة للتأويل لا للحسم . والرأي الثالث بالغ في التطرف النقدي المُنحاز لجهة ما يُسمى بقصيدة النثر برغم حسن ظني بصاحبه وهو الدكتور سعد البازعي الذي يقول: (بأن ما يسمى بقصيدة النثر لا ينبغي أن يُعترض عليها من ناحية الشكل) ليُسوِّغ مشروعيَّة ما يُسمَّى بقصيدة النثر لنُعطيها صفة الشعر حتى عندما تفتقد إلى الأُسس المعياريَّه الدّقيقه لمعرفة مفهوم الشعر،ولأن الدكتور البازعي ينطلق من حسِّ الكاتب وليس من حسِّ الشاعر الذي يعرف قيمة الإلهام،وكيف تُصاغ القصيدة بأدواتها المشتمله على (اللغه والفكر والجرس الموسيقي) ؟ باعتبار هذه الأدوات من أهم مُكَوِّنات الشعر،ولم يتكبَّد المعاناة وإلاَّ لما ألقى الكلام على عواهنه،وبرغم ذلك فإنني أضع بين ناظريه وفكره علاقة سببيّه لقيام قصيدة الشعر لا تتوفر عليها تلك المزاعم المؤيدة لما يُسمَّى بقصيدة النثر،وأضعه بين مفهومين متناقضين في هذه التّسميه فإذا قلنا (قصيدة النثر) فقصيدة تعني شعراً،ونثراً يعني الكلام المرسل الذي لا يتطلَّب الوزن وربما تدخله المحسَّنات البديعيَّه من جناس ومقابله وطباق ليأتي نثراً بليغاً ربما يتفوق على بعض القصائد الشعريه كنثر (قس بن ساعده) و(علي بن أبي طالب) كرَّم الله وجهه ومصطفى صادق الرافعي،وهو فنٌ قائم بذاته وله أربابه،فكيف نُحمِّل المعاني أكثر مما تحتمل ؟ وكيف نجوِّز هذا الإسقاط اللغوي المضاد لبعضه البعض ؟ ولماذا لا تُسمَّى تلك الكتابات بالنثر المبدع أو النثر المصوِّر أو النثر الخارق ؟ ويذهب الدكتور البازعي ويبحر أعمق حين قرَّر قراراً لا أدري من أي مصدر استقاه حينما قال : (بأن الشعر ليس مُرتبطاً بالوزن ) وهذه ثالثة الأثافي الذي وقع فيها أو أوقع نفسه فيها دون مرجعية،فهو في البداية يُنكر الشكل فسلَّمنا له,والآن ينكر الوزن،إذن فأين الشعر يا دكتورنا العزيز،لقد أسقطت كل شروط الشعر وهدَّمت أركانه،لتسويغ ما يُسمَّي بقصيدة النثر,لا يا دكتور فإنني أُعيذك أن تكون من المُجاملين فنحن مسئولون أمام الله وأمام أُمَّتنا وأمام نعمة العقل الذي وهبنا الله إياه،وهذه الأجيال أمانةً في أعناق العارفين والعالمين لتبصيرهم بحقائق لو أغفلناها ربما تؤدِّي بهم إلي الضَّياع والتّيه في مجاهل التّغرير والتَّغريب . ثم نستعرض الرأي الرابع للأُستاذ الدكتور / عبدالله المعطاني الشاعر الملهم والناقد الحصيف الذي استطاع أن يضع النقاط علي الحروف,وأن يُقدّم لنا رأياً علمياً جديراً بالتقدير والاحترام لا لأنّه وافق رأينا،ولكن لأنَّه يعرف أن الشعر المُتَّفق عليه عبر عصوره وأجياله هو ما عناه القرآن الكريم في (سورة الشعراء) لعدم وجود شعر تفعيله أو ما يُسمَّى بقصيدة النثر,وعندما وقف الشعر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الشعر العربي العمودي الفصيح للشاعر الفحل كعب بن زهير،وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضى الله عنه (أهجهم وروح القدس معك) كان يقصد الشعر الموزون المقفى الفصيح,فكيف يجوز لنا بجرة قلم,أن نمسخ تراث أمّة نحن ننتمي إليها ونحمل هويتها ؟! لنذوب في هويَّة أُخرى حتى يقال عنَّا أننا تقدُّميُّون ومستقبليُّون لأننا أخذنا بأفكارهم الحداثيّه أو العولميَّه ونحن لم نكن من صُنَّاع هذه الأّراء أو النظريات أو الأفكار ورحنا ندافع عنها بتفانٍ وإخلاص لنكون أذيالاً للعادي ليسهل عليه ابتلاعنا في أي وقت,ثم لماذا أخذنا الحداثه وطبقناها فقط على الشعر ؟ والحداثه كتنظير فكري تأخذ بالاتجاهات العلمية والنظرية,لذلك فأنا مُتَّفِقْ مع رأى الدكتور عبدالله المعطاني ورأي الدكتور فواز اللعبون جملة وتفصيلاً،وأقول لهما لقد آن الأوان لكي نرفع الحجب عن أعين أجيالنا لتبصيرهم بما يُحاك في الخفاء لتهديم أركان قيمنا وآثارنا وموروثاتنا العربية،وأن نكشف عوار من يتسنّمون وسائل الأعلام المرئي والمقروء والمسموع الذين يُحكِموُن قبضاتهم علينا وينشرون الهزيل من الشعر ليؤكِّدوا زيفهم بدسائسهم بأن الشعر العمودي مستهلك,وقديم,ورجعى ولا يُعبرِّ عن آمال الشعب والعصر،وهم يخادعون الله وما يخدعون إلاّ أنفسهم حين يتنصلون من تراثهم ويُعبرِّون عن عجزهم،ويحاولون الالتصاق بِتُراث الغرب الذي لا يراهم ولا يسمعهم ولا يهتم بهم,وإذا عرفنا حقيقة الشعر والشعراء في الوطن العربي بأمانة ونزاهة وشرف نعرف الذين يُمثِّلون الحداثة العصرية هل هم شعراء الوزن والقافيه أم شعراء قصيدة النثر،لأننا نحن شعراء قضيّه والشعر قضيَّه وأحداث وانفعالات تُصاغ لتنتج الشعر الذي يكون جديراً أن يقال له شعرُ . أمّا الرأي الخامس الذي أورده الأستاذ /محمد خضر فهو قد وضع أُصبعه على المشكله التي تُفرغ ما يُسمَّى بقصيدة النثر من معناها ومضمونها وقيمتها حين يقول (ربما بقيت مشكلتها الوحيدة في شيوعها بكثره خلال عقد مضى وفي كثير من حالات الإستسهال اللاواعية ) وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه بتفاهة مفهوم ما يُسمى بقصيدة النثر التي تصدر عن عقليَّات لاواعيه تريد أن تَسجل إسمها على صفحات مملكة الشعراء الحقيقيين لفقدانهم لملكة الشعر وعجزهم عن مجاراة الشعراء الملهمين،ولو أردنا تعريتهم أكثر وفضح جهالاتهم سنطلب منهم أن ينظموا بيتاً واحداً من الشعر العمودي الفصيح وعندها سنكتشف عجزهم وجهلهم وغباءهم أيضا،وبالإحاله أيضاً إلى اكبر نقاد الحداثة وهو الدكتور محي الدين اللاذقاني الذي وصفهم ب (شعراء السردين) في مقاله المنشور بجريدة الشرق الأوسط مضيفاً بأنَّ: (جميعهم يكتبون نصاً واحداً لا تستطيع أن تفرق أو تميّز بين نص وآخر) كما أن معجمهم اللغوي لا يخرج عن الحبيبة والرفيقة والكأس والنبيذ كالذي يقول (حبيبتي جدار الإسمنت) (والريشه التي اغرقت البحر) وغيره من الهلوسات،فسلام على الشعراء الملهمين من شعراء العربيه الأفذاذ الذين خلَّدهم الزمان والمكان منذ الشعر الجاهلي إلى وقتنا المعاصر،وسلام على السائرين على نهجهم ليكتبوا بحروف النور سِفر الخلود .