وصف (أبو حيان التوحيدي) ب (فيلسوف الأدباء ، وأديب الفلاسفة) ، ألف كثيراً، لكنه أحرق كتبه في آخر أيامه، فقد كان من الأدباء الذين أصيبوا في حياتهم بالبؤس والشقاء، يقول عن نفسه: (إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم ، فحُرمت ذلك كله... ولقد اضطرت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة ، وإلى بيع الدين والمروءة ، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق ، وإلى ما لا يحسن بالحر بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم).. | ومن مؤلفات (التوحيدي) التي سلمت من الحرق كتابه الشهير: (الإمتاع والمؤانسة) ، جمع فيه مسامراته مع أبي عبدالله العارض وزير صمصام الدولة البويهي (في أواخر القرن الرابع الهجري) في ليالٍ بلغت سبعاً وثلاثين ليلة (كان يحادثه فيها ، ويطرح الوزير عليه أسئلة في مسائل مختلفة فيجيب عنها التوحيدي وتمثل تلك الإجابات الوافية طرائف وحكم لا تصدر إلاَّ من أديب بارع وحكيم بليغ. - طلب منه الوزير ذات ليلة أن يجمع له (كلمات بوارع، قصار جوامع) فكتب له ما سمعه من أفواه أهل العلم والأدب مما فيه تنبيه للعقل ، وإمتاع للروح ومن كلماته البليغة التي تصلح لأهل زماننا - زمن التهافت على جمع الأموال، بأية طريقة، وبأي حال من الأحوال : (مَن أعزَّ فلسه ، أذل نفسه)، (القناعة عز المعسر، والصدقة كنز الموسر) ، (درهم ينفع خير من دينار يضر)، (الشقي من جمع لغيره، فضن على نفسه بخيره) (من استغنى بالله عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس) ، (رُبَّ فرصة ، تؤدي إلى غصة) . |كلام من ذهب لا يجهله عاقل ، والمهم (التمشي بما جاء فيه )!. - وإذا علمنا أن الحكم والمواعظ هي خلاصة لتجارب سابقة مرت على أمم ، ومواقف إنسانية تبين من خلالها ما يصلح أحوال الناس أو العكس فإن الاعتبار بما جرى على السابقين أمر ضروري لتلافي الأضرار!. | وفي هذا يقول التوحيدي: (لو اعتبر من تأخر بمن تقدم ، لم يكن من يتحسر في الناس ويندم، ولكن الله بنى هذه الدار على أن يكون أهلها بين يقظة ونوم ، وبين فرح وترح ، وبين حيطة وورطة، وبين حزم وغفلة، وبين نزاع وسلوة، لكن الأخذ بالحزم- وإن جرى عليه مكروه - أعذر عند نفسه وعند كل من كان مَسْكه من المُلقى بيده، والمتدلي بغروره، والساعي في ثبوره ، وما وهب الله العقل لأحد إلاَّ وقد عرضه للنجاة، ولاحلاه بالعلم إلا وقد دعاه إلى العمل بشرائطه، ولاهداه الطريقين ولا حلاه بالعلم إلاَّ وقد دعاه إلى العمل بشرائطه ، ولا هداه الطريقين (الغي والرشد) إلاَّ ليزحف إلى أحدهما بحسن الاختيار). - ما أسعد المرء بمن يجد في حديثه المتعة والفائدة ! وما أطيب مجالس الإخوان حين تكون حافلة بالأحاديث الصالحة ،والحوارات الهادفة. | يُروى عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه قال: والله إني لأشتري هذه الكلمة (أو المحادثة) من عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود (وكان إماماً عالماً) بألف دنيار من بيت مال المسلمين، فقيل : يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟ فقال: أين يذهب بكم؟والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت المسلمين بألوف وألوف الدنانير..). | ابحثوا عن المجالس العامرة بموائد الفكر المنير، والرأي الحصيف، تجدوها لدى العقلاء الحريصين على خلو مجالسهم من الجهلاء! والله الموفق.