أعيش اليوم حياتي غريباً في وسط مجتمع تغيرت فيه كل مقاييس وعبارات الالتزام والصدق والأمانة والوطنية كما تغيرت قواعد مضامين معاني العادات والتقاليد وحتى المفاهيم والقيم والمبادىء. أصبحت أعيش في مجتمع مختلف تماماً عما عشته وألفته في شبابي ومجتمعي وبلادي. فما كان واجباً بالأمس أصبح غير ملزم اليوم وما كان منتقداً أصبح محبباً ومعمولاً به. وما كان غير لائق أصبح اليوم كما يقول شبابنا (عادي) فكل شيء عندهم (عادي) سواء كان خطأ أم صواباً. مبهراً أو مدهشاً. فكل ما هو أمامهم سواء بسواء فليس لديهم القدرة على التمييز أو حتى التفريق بين الغث والسمين. فثقافة أبنائنا اليوم أقولها بمنتهى الصراحة والشفافية (عادية) وحتى تعليمهم أصبح خالياً من المضامين فكل ما تسأله عن شيء تطلب فيه رأيه يجيبك بكلمة (عادي) فالذوق والقدرة على التمييز مفقود يا ولدي؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر أصبحت الوطنية لدينا ينحصر مفهومها في القدرة على لعب كرة القدم أو التميز في أداء الأغاني.. أما ما عدا ذلك فهو في مفهومهم (عادي). رحمك الله يا أبي ويا جدي.. انهم عاشوا وماتوا وهم أهل ذوق وقيم ومباديء وشيم ونخوة وتذوق وإحساس بكل ما هو حولهم، لهم رأي سديد وذوق رفيع يعرفون ما يجب وما لا يجب يقدرون الوطنية ويعملون على غرسها في أبنائهم تحية إكبار وإعجاب أبعثها عبر الأثير لأبنائنا وأجدادنا رحمهم الله الذين علمونا الوطنية والشهامة والنخوة والغيرة والتمييز والذوق الرفيع. علموني كيف تموت الدمعة في الأحداق في مواقف الشدة والصبر على المكاره والصفح عن المسيء. علمتني يا أبي.. أن من مات دون عرضه فهو شهيد ومن مات دون ماله أيضاً فهو شهيد ومن مات دون أرضه أيضاً فهو شهيد. عشت اليوم لأرى المتناقضات وتخلخل المفاهيم والقيم فكلما رأيت ذلك ترحمت على والدي لأن لدي سلاح قوي ومفهوم لا يدانيه الشك ولا يخترقه الخطأ بأن ذلك كله مفاهيم وقيم بالية. بالأمس القريب سمعت أباً يوصي ابنه في برنامج (ستار أكاديمي) ويقول له ذاكر جيداً يا ابني الأغاني لترفع اسم بلدك؟ يا سبحان الله هل أصبحت الأغاني اليوم هي كل شيء نفتخر به لرفع رؤوسنا وقيم بلادنا؟ حقيقة إنها كارثة تسيء ليس لبلادنا فحسب بل لديننا وقيمنا ونهجنا الإسلامي؟! أين ذهبت ثوابتنا هل ذابت كقطعة سكر في كوب ماء؟ هل نستدعيها عند الطلب لنكمل بها عبارة أو مشهداً روائياً أو تلفزيونياً؟ كيف سيكون حالنا بعد عقود من الزمن أو بضع سنوات معدودة! يا سبحان الله! هل عجزنا أن نورث أبناءنا الفضيلة والسماحة ومعنى الوطنية؟ هل عجزت التربية والتعليم اليوم عن غرس مبادئنا في أطفالنا!!؟؟ لا أعرف ماذا أقول في وضعنا المتردي وموقف الآباء من الوطنية والمبادىء والقيم. إذاً ماذا نسمي شهداء الوطن! وماذا أبقينا لمن ماتوا دون وطنهم هل هم شهداء الأغنية أم الكرة؟ إنني لا أحقِّر أو أزايد أو استهجن الفن وأهله والرياضة وشبابها ولكنني أشجعها وأباركها متى ما استخدمت وفق حدود ونهج وأطر معينة لا تطغى على قيمنا وثوابتنا ونهجنا وأخلاقياتنا. حقيقة لا حياة بدون فن أو رياضة ولكن أن تصبح كل شيء ومقياساً للوطن والمواطن. فالمواطنة هي مصدر عز وفخر دون غيرها. وما أعيبه واستهجنه في عصرنا الحاضر أن نميل إلى جانب دون آخر ونعطيه كل جهدنا ووقتنا ومالنا دون الجانب الآخر. فعلنا نعيد تقييم معايير قياس الوطنية في مجتمعنا. ونؤكد في أجيالنا روح الانتماء للوطن وأن الوطنية ليست شعارات تقذف وأغاني تردد بل الوطن أكبر وأسمى من الذات النفسية. فالموت في سبيل الوطن هو فخر لا يعادله عز ونصر لا يضاهيه نضال من أجل الحياة والكرامة.. فالإنسان بلا وطن يعني أنه بدون هوية أو كرامة أو حدود تقيه شر أعدائه. فحبذا لو عملنا يداً بيد لنعيد لأبنائنا ونؤكد فيهم معنى القيم والمفاهيم الحضارية والحفاظ على مفهوم الوطنية وربطها بالأرض التي نعيش عليها. وإحياء الغيرة والحماس للذود عنها والحياض دونها. وعلى الشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين أن يستنهضوا شباب الوطن بالأناشيد الحماسية التي نفتقر إليها اليوم لدغدغة الحواس والمشاعر الكامنة في نفوس شبابنا. فحماسة الأجيال وغيرة البراعم على قيمهم وثوابتهم وأرثهم هي بعيدة كل البعد اليوم عن الحقيقة. فما أنبل وأكرم أن نعيش لأوطاننا أو نموت دونها. فالشباب السعودي لا ينقصه اليوم سوى التوجيه واستثارة الحوافز والدوافع لتحريك حواصه ومشاعره نحو أرضه الغالية. فأسلوب الحماس يتمثل اليوم في (فوكسة المفاهيم) وتحديد اتجاهها في نفوس الشباب فالوطنية ليست هي عبارات وشعارات تؤدى وأفواه تردد ولكنها إيمان عميق واعتقاد وثيق بربط النفس بالثرى والثرى بالوطن.