أكد مستشار وزير الحج ومدير إدارة التوجيه والتوعية بالوزارة أحمد المبارك الحريبي أن في كل عام يهل علينا هلال شهر رمضان المبارك فيجدد في قلوبنا الذكريات النافعة ، ويدعونا إلى التماس العبر من تاريخ الاسلام وامجاده الخالدة ، وإن من أعظم الذكريات التي تنمو في نفوسنا على مدى الأيام وينتشر ضؤوها كلما أشرق هلال رمضان ذكرى غزوة بدر الكبرى وهي أول معركة كبيرة في الاسلام قامت بين الحق والباطل وأول معركة قاد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه جيش المسلمين ، وهي أول معركة تجلت فيها آيات تأييد الله للمسلمين وامدادهم بقوته ومعونته (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). لما تمت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة وأصبحت المدينةالمنورة وطنهم الجديد ومنطلق دعوتهم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بتدعيم الوحدة بين المسلمين فعمل على محو ما تبقى بين الاوس والخزرج من آثار العداء والبغضاء ، وآخى بين الأنصار (الأوس والخزرج) وبين المهاجرين وكان هذا التآخي قوياً متينا يسمو على ما عداه من صلات. وعقد معاهدة بين المسلمين واليهود ليكون المسلمون في مأمن من غدرهم. وقال الحريبي أنه وفي السنة الثانية من الهجرة فكر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في شأن قريش الذين اخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق ، واستذلوا باقي المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهجرة وفرقوا بينهم وبين أولادهم وارحامهم بالغلظة والقسوة ووقفوا في سبيل دعوتهم بغيا وعدوانا ، فكروا: كيف يثأرون من هؤلاء المعتدين وكيف يستردون من هؤلاء الغاصبين أموالهم التي سلبوها. اعتراض العير وأوضح الحريبي وانتهى بهم التفكير الى خطة عزموا على تنفيذها وهي - قطع طريق التجارة على قريش - وقد جرت في هذا السبيل سبع محاولات لاعتراض عير قريش منها ثلاث سرايا بقيادة حمزة بن عبدالمطلب وعبيدة بن الحارث وعبدالله بن جحش واربع محاولات بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد التهديد لقريش والقاء الرعب في قلوبهم. وقد استفاد المسلمون من هذه السرايا فائدة عظيمة ، تعلم المسلمون فيها تدريجيا الحكمة في ملاقاة الاعداء ودرسوا الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة وخاصة الطريق التجارية التي تعودت قريش أن تسلكها في رحلة الصيف من مكة إلى الشام وبالعكس ، واستطاع المسلمون كذلك ان يشعروا اعداءهم من المشركين ومن اليهود ومن سائر القبائل العربية بقوتهم. وجاءت بعد ذلك: غزوة بدر الكبرى عندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم ان قافلة تجارية كبيرة لقريش قادمة من الشام في طريقها إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان ، فندب أصحابه للتعرض لها ولم يكن يريد قتالا وانما اراد أن يفجع قريشا في أموالها كما فجعت قريش المسلمين من قبل في أموالهم وأنفسهم ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من اصحابه في اليوم الثامن من رمضان ، ومعهم فرسان وسبعون بعيرا يتناوبون في الركوب عليها ، وتناوب الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي بن ابي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على بعير واحد فكان أحدهم يركب ويمشي الآخران ، فقال صاحبا النبي صلى الله عليه وسلم نحن نمشي عنك فقال: (ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما). الشدة والرخاء وهنا يجدر بنا ان نقف وقفة اعجاب وتقدير لهذا الموقف الكريم من النبي العظيم فهو يشارك أصحابه في الشدة والرخاء ويقاسمهم السراء والضراء يأبى إلا أن تكون حصته في ركوب البعير كواحد منهما. وصل إلى اسماع أبي سفيان خروج النبي صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على قافلته ففزع كل الفزع واتخذ طريقا غير الطريق المعتادة حيث سار بالعير في طريق ساحلي بعيدا عن يثرب ليتفادى لقاء المسلمين في الوقت نفسه وللاحتياط للطوارئ ارسل إلى قريش يطلب الغوث والنجدة وحينما علمت قريش في مكة بخروج المسلمين لمواجهة تلك العير ، هبوا مسرعين لنجدة القافلة وعلى رأسهم سادتهم وكبراؤهم وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلا ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير محملة بالزاد والسلاح. وبينما هم في الطريق وصلهم رسول من أبي سفيان يخبرهم بنجاته هو وقافلته ، ويطلب منهم الرجوع ولكن أبا جهل تحمس للحرب وأبى إلا أن يتقدم ويؤدب المسلمين على حد قوله فصاح قائلاً: (والله لا نرجع حتى نصل إلى بدر ونقيم فيها ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا ابدا بعدها). لقد كشف أبو جهل بكلامه هذا عن بطره وغروره وقد أمر الله المؤمنين بالابتعاد دائماً عن الغرور والرياء والكبر فقال سبحانه وتعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط). تردد القوم بعد أن عرفوا أن أبا سفيان قد نجا بالقافلة فرجع بعضهم إلى مكة وهم بنو زهرة أما سائر القبائل فقد اتبعت رأي أبي جهل ومضوا في طريقهم حتى وصلوا وادي بدر ونزلوا بالعدوة القصوى عن المدينة. اما المسلمون فقد بلغهم خبر نجاة ابي سفيان بالقافلة ولكن الخبر الذي شد انتباههم هو تحركات جيش مكة الضخم واستمراره في الزحف نحو بدر بالرغم من نجاة العير التي لم يخرج إلى لحمايتها ، لهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه التطورات الخطيرة غاية الاهتمام وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكيدة وقوية في الاشتباك مع جيش مكة في بدر مهما كلفهم ذلك من أمر ، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أولاً أن يستوضح رأي أصحابه في شأن القتال ومدى تحمسهم له فجمعهم واستشارهم في الأمر ، فتكلم أبو بكر ثم عمر بما يؤيد الرسول صلى الله عليه وسلم ويعضده ثم تكلم المقداد بن عمرو أحد قادة المهاجرين فقال: (يا رسول الله أمض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون) ثم تكلم سعد بن معاذ من الانصار فقال: (لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله). المهاجرون والانصار ويسطرد الحريبي وهنا سر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ان عرف رغبة المهاجرين والانصار الصادقة في الاشتباك مع جيش الشرك. وهنا صدرت الأوامر على الفور لجيش المسلمين بمواصلة التحرك نحو بدر وقال: (سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين: (العير أو النفير) والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم وهكذا ظلوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القريبة من المدينة وهي العدوة الدنيا. وقد صدق الله وعده فالتقى المسلمون باحدى الطائفتين وهي الطائفة القوية ذات الشوكة مع انهم كانوا يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ولكن الله اراد لهم ان يقاتلوا قريشاً لانها الفئة ذات الشوكة التي اذا انهزمت فقد انهزم الشر كله ، وأخذت الدعوة سبيلها إلى الذيوع والانتشار وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (واذ يعدكم الله احدى الطائفتين انها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). نزل المسلمون من وادي بدر في الجانب الادنى بعيداً عن الماء في أرض دعثة فأصبح المسلمون ولا ماء لديهم كما ان الارهاق قد أخذ منهم مأخذه وهنا أكرمهم الله وتجلى عليهم فأخذتهم سنة من النوم ثم جادت عليهم السماء بمطر مدرار فشربوا منه واغتسلوا واتخذوا الحياض وملأوا اسقيتهم وتماسكت الارض التي تحت أرجلهم فكان ذلك كله مما أدخل النشاط والطمأنينة إلى قلوبهم وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعونة غير المتوقعة (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) أما أثر هذا الغيث فكان وبيلا على المشركين فإن المياه أوحلت أرضهم وجعلتهم لا يستطيعون الانتقال والتقدم. ونزل الرسول بالمسلمين أدنى ماء من بدر وحدثت حادثة تجلت فيها قيادة رسول الله الحكيمة فقد رأى الحباب بن المنذر أنه ليس من المصلحة الحربية النزول في هذا المكان فتقدم وهو الخبير بهذه الأمكنة ناصحاً رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: يارسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال الحباب : يارسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه فنشرب ولايشربون فاقتنع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي السديد وأعلن أنه قد نزل على رأي الحباب بن المنذر وإن في ذلك الحكمة والصواب. وإن لنا أن نأخذ من هذا الموقف عظة شافية لقلوبنا فنطرح الاستبداد بالرأي والغرور وليكن لنا قدوة برسولنا الذي لم يكن مستبداً برأيه ولا راكبا متن الغرور بل كان يشاور أصحابه كي يتلمس وجه الخير والرشاد عملاً بقوله تعالى : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ) وكان يحترم الرأي الصائب وينفذه ولو تعارض مع رأيه، وحرصاً من المسلمين علي سلامة نبيهم صلى الله عليه وسلم قال سعد بن معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم يانبي الله نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحوك ويجاهدون معك ، وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد ودعا له بخير ثم بُني للرسول صلى الله عليه وسلم عريش فوق تل ليشرف منه على المعركة. الصبر على القتال ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليهيىء أصحابه للقتال فنظم صفوف المقاتلين من المسلمين وألقي عليهم كلمة قبيل المعركة قال فيها : (والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض (فلم يكد المسلمون المؤمنون يسمعون هذه الكلمة من نبيهم حتى نسوا الدنيا بما فيها من سعادة ونعيم حتى ان أحدهم وهو عمير بن الحمام كان يأكل بعض تمرات فقال: لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل فشفى الله صدره بالقتال والجهاد في سبيل الله وحقق له نعمة الاستشهاد. وفي اليوم السابع عشر من رمضان بدأت المعركة بين فئتين فئة قليلة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وفئة كثيرة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان فكان هذا اليوم عسيراً على الكافرين غير يسير. ابتدأ القتال على عادة العرب بالمبارزة فقد خرج من صفوف المشركين ثلاثة من فرسان قريش وخيرة محاربيهم ومن عائلة واحدة وهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد ودعوا المسلمين إلى المبارزة فسارع بالخروج إليهم ثلاثة من رؤوس المهاجرين وهم حمزة بن عبدالمطلب وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعلي بن أبي طالب فقتل حمزة عتبة وقتل علي الوليد وأعانا عبيدة على شيبة حتى أجهزوا عليه وحملاه مقطوع الساق. اشتداد المعركة وبعد المبارزة التقى الجمعان واشتدت المعركة وثار غبارها وحمي وطيس القتال وهنا لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته إلى الله يناجيه ليجعل له من هذا الكرب والضيف فرجاً ومخرجاً وتوجه إلى ربه بهذا الدعاء (اللهم هذه قريش أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد) ومازال ماضيا في دعائه ورافعا يديه إلى السماء طالبا من الله ألا يردهما خاليتين من رحمته وأبو بكر رضي الله عنه من ورائه يهتف به قائلاً: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك ، وهكذا يظل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ربه ضارعاً خاشعاً حتى أخذته سنة من النعاس .. ثم استيقظ فقال أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع. لقد تجلت عناية الله برسوله وبالمؤمنين فأيدهم بجنوده وملائكته لتقوية الروح المعنوية في نفوس المسلمين يقول الله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذي كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان). وقد اشترك الرسول صلى الله عليه وسلم في القتال وارتاع المشركون حينما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض غمار المعركة بنفسه ومعه حرس قيادته وأصحابه يهاجمون العدو كالسيل ويحطمون كل قوة تقف في طريقهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قول الله تعالى : (سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وانجلت المعركة عن هزيمة المشركين فولوا مدبرين بعد أن قتل المسلمون منهم سبعين وأسروا مثل ذلك بينما أستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً فحسب. قتل رأس الكفر قال الحريبي ولقد تجلى في هذاليوم وفي هذه المعركة عدل الله مع الظالمين إذ لمسوا نتيجة ظلمهم ، وجنوا عاقبة غدرهم واثمهم ، (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)، فهذا أبو جهل رأس الكفر وحامل لواء العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم هوت على رأسه سيوف الاسلام ، فخر صريعا يتخبط في دمه بعد أن قاتل قاتلاً ضاريا، ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري ضربة بترت قدمه مع نصف ساقه ، فخر صريعا يتخبط في دمه ، وبعد أن انتهت المعركة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقق من مصير الطاغية أبي جهل ، فانتشر الجند في أرجاء المعركة يبحثون عنه ، وبينما عبدالله بن مسعود يبحث مع الباحثين إذا به يجد دعامة الشرك وبه آخر رمق ، فاقترب منه ، وبعد أن وضع رجله على عنقه ليجتز رأسه قال له : هل أخزاك الله ياعدو الله ؟؟ فقال أبو جهل : وبم أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ يعني بهذا الكلمة : وهل أعظم من رجل قتله قومه ؟ أخبرني : لمن الدائرة اليوم؟فقال ابن مسعود : لله ولرسوله وللمؤمنين فقال أبو جهل لابن مسعود - وكان باركا على صدره ليجتز رقبته - لقد ارتقيت مرتقى صعبا يارويعي الغنم ، وبعد هذا الحوار أخذ ابن مسعود رأس أبي جهل ووضعها بين يدي الرسول وقال له : هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال النبي : آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فأكد له ابن مسعود ذلك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد وضعت أمامه رأس الطاغية- الحمد الله الذي أخزاك ياعدو الله ، هذا فرعون هذه الأمة. وبلال رضي الله عنه ، ثأر يوم بدر من معذبه أمية بن خلف ، نظر بلال بن رباح في صفوف المشركين ، فرأي أمية بن خلف ، فأدرك أن هذا يوم القصاص ، وتذكر تاريخ أمية المطلخ بالخزي والعار، فثارت نفسه ، وصاح قائلا: ( أمية بن خلف رأس الكفر والضلال ، لا نجوت إن نجا) وحاول أمية بن خلف الهروب ، ولكن القضاء العادل نفذ، فكان القصاص الرهيب في الدنيا قبل الآخرة ، وذهب أمية بن خلف صريع بغيه وعدوانه ، على يد بلال. وكذلك النضر بن الحارث عدو الله ورسوله ، وعقبة بن أبي معيط عدوا الله ورسوله ، هؤلاء وغيرهم من أئمة الكفر الذين لا أيمان لهم، وقفوا في يوم بدر للقصاص ، ورأوا بأعينهم نكال أمرهم ، وعاقبة بغيهم وظلمهم ، وكانت نهايتهم الأليمة عبرة وعظة سجل التاريخ بها أن الظلم لا يدوم ، وأن مرتع البغي وخيم ، وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، انتصر المسلمون على المشركين في معركة بدر ، ويجدر بنا أن نتأمل عوامل هذا الانتصار ، فأول هذه العوامل: العقيدة: لقد خاض المسلمون هذه المعركة بإيمان قوي ، وكانوا على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى قلوبهم كانت عامرة بالإيمان ، كلهم آمن أن الموت حق ، وأن الحرب لا تقصر الآجال ، وأن القعود في البيوت لا يطيلها ، يقول الله تعالى : ( قل لو كنتم في بيتوكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها وعملها). الموت أو الشهادة ويضيف لقد خاض المسلمون معركة بدر وكل واحد منهم على يقين بأنه لا شك فائز بإحدى الحسنيين: إما الموت وهو الشهادة ، وإما النصر ، ولقد تجلت في معركة بدر مناظر رائعة، برزت فيها قوة العقيدة، وثبات المبدأ . وأثبتت معركة بدر أن الاسلام كون من المهاجرين والأنصار كتلة واحدة تفانت في نصرة دين الله ، ودعوة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن شعارهم واحد، وغايتهم واحدة ، فقد قاتل الابن أباه ، والأخ أخاه نعم قاتل المهاجرون آباءهم وأبناءهم واخوانهم ، فقد وقف حمزة بن عبدالمطلب يقاتل العباس بن عبدالمطلب، ووقف علي بن أبي طالب يقاتل عقيل بن أبي طالب، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة ، كما طلب أبو بكر الصديق مبارزة ابنه عبدالرحمن الذي كان في جيش المشركين ، ووقف كل مهاجر أمام قريب له أو نسيب ، غير مبال بقرابته أو مصاهرته في سبيل الله ، وإعلاء كلمة الله ووجدت صلة الأخوة في الله بين المسلمين أقوى من صلة الدم ، أقوى من القرابة القريبة يقول الله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) من عوامل النصر: الشورى فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر شورى بينه وبين اصحابه، تجلى هذا حين علم أن قريشا أعدت النفير للدفاع عن العير وقتال المسلمين. فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه : هل يمضي أو يعود؟ وما مضى في المسير الا بعد أن أجمع عليه رأي صحابته. وتجلى هذا ايضا حين نزل في وادي بدر، فنزل منزلا واشار عليه الحباب بن المنذر أن يغير هذا المنزل، فنفذ ما أشار به الحباب. وتجلى هذا ايضاً حين انتهى القتال وأسر المسلمون عدداً من المشركين، وأراد بعض المشركين أن يفتدوا اسراهم، فاستشار رؤوس أصحابه في شأن الاسرى. قال تعالى : (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر). وحدة الكلمة كذلك من عوامل النصر: الاخلاص ووحدة الكلمة فلقد أظهر المهاجرون روحا عالية في الحرص على الحقوق، وتثبيت اقدامهم وظهرت تلك الروح فيما قاله المقداد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا الانصار قاتلوا قريشا بدافع الايمان والطاعة لرسول الله، فلم يكن بينهم وبين المشركين ثارات، وما سبق أن عاهدوا الرسول عليه عند العقبة ما كان يلزمهم ان يقاتلوا معه في ميدان خارج مدينتهم، ولكن ايمانهم القوي حول حالهم، حيث اظهروا استعدادهم الكامل بأن يقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أي مكان، فهذا قائدهم سعد بن معاذ الرجل المؤمن المخلص له موقفان كريمان: الأول : عندما قال للرسول : (لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك) والثاني : عندما اشار ببناء العريش حرصاً علي حياة النبي صلي الله عليه وسلم. ومن المواقف المشهورة في غزوة بدر : موقف ابي بكر وعمر، حين التشاور في فداء الاسرى، فقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا بالمدينة، شهده كبار الصحابة، لبحث موضوع الاسرى وتقرير مصيرهم. فقال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله قد كذبوك وقاتلوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم فهم رؤوس الكفر وائمة الضلال، ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة).. وقال ابو بكر : (يا رسول الله هؤلاء أهلك وقومك، وقد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم، واني ارى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم، فيكون ما اخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للاسلام، فيكونوا لنا عضدا) ووافقه على هذا الرأي جماعة من الصحابة. وقد تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه الكريمين : أبي بكر وعمر، فضرب لهما امثلة من الملائكة والانبياء، فأما ابوبكر فمثله في الملائكة كمثل ميكائل، ينزل برضا الله وعفوه على عباده، ومثله في الانبياء كمثل ابراهيم كان ألين على قومه من العسل، قدمه قومه الى النار وطرحوه فيها، فما زاد على أن قال : (فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم) وكمثل عيسى اذ يقول: (ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيزالحكيم) واما عمر فمثله في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على اعداء الله ومثله في الانبياء كمثل نوح اذ يقول : (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا). ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي ابي بكر، وترك رأي عمر وقبل الفداء من الاسرى وقال لاصحابه: لا يفلتن احد من اسراكم الا بفداء.. وهكذا انتهت مشكلة الاسرى، وابلغت المدينةومكة هذا القرار، وتم على اساسه فيما بعد اطلاق سراح الاسرى جميعا، اما بواسطة الفداء الذي دفعه الموسرون، واما بواسطة المن الذي تكرم به الرسول صلى الله عليه وسلم، واطلق سراح بعض الاسرى من غير فداء لفقرهم كما اتفق مع المثقفين من الاسرى على اطلاق سراحهم مقابل قيامهم بتعليم اطفال المسلمين القراءة والكتابة. الموقف من الأسرى وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف من الاسرى لأن من طبيعة الداعية الصادق ان يحرص على هداية اعدائه، وان يفسح لهم المجال لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية. ومن هنا نفهم سر ميل الرسول صلى الله عليه وسلم الى فداء الاسرى يوم بدر، فقد كان يرجو ان يهديهم الله وان تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو اليه. غير انه بعد صدور قرار الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الاسرى نزل قول الله تعالى (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم) والمعنى : ما صح لنبي ان يكون له اسرى حتى يذل الكفر ويضعفه باشاعة القتل في اهله ويعز الاسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر ثم الاسر بعد ذلك وهذا الرأي هو ما كان عمر بن الخطاب قد رآه، حيث قال الرسول صلي الله عليه وسلم : (كذبوك وأخرجوك، وهؤلاء أئمة الكفر، وان الله أغناك عن الفداء) فمصلحة الاسلام يومئذ هي ارهاب اعداء الله، والقضاء على رؤوس الفتنة والضلالة ولو قتل الاسرى يوم بدر لضعفت مقاومة قريش للقضاء على زعمائها ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين. وختم الحريبي يقوله ان غزوة بدر كانت درساً عملياً تجلت فيه ثمرة الايمان فنصر الله المسلمين وهم قلة لأنهم آمنوا بالله وأخلصوا الايمان وخذل المشركين وهم كثرة لأنهم حادوا عن الحق وابتعدوا عن الايمان :(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). جدير بنا ان نمعن النظر في هذه الغزوة وان ننتفع بما حوته من دروس وعبر، فهي كتاب مفتوح تقرؤه الاجيال في كل زمان ومكان. وما أحوج المسلمين في كل زمان ومكان الى الانتفاع بهذه الدروس القيمة، والمثل العليا حتى يستردوا المجد الغابر، ويصلوا الماضي بالحاضر : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين).