تواصل “الندوة” نشر السيرة والمسيرة العطرة لسيد محمد طاهر مسعود الدباغ في حلقته الثالثة والذي يعد أحد زعامات النخب الوطنية في الحجاز وأحد ابرز أعلام النهضة التعليمية بل يعتبر من أبرز رواد ومؤسسي التعليم النظامي بالجزيرة العربية وصاحب الانطلاقة الكبرى والنواة الطيبة للنهضة التعليمية في المملكة العربية السعودية. عندما تولى الدباغ إدارة المعارف في شوال 1354ه كان شغله الشاغل العمل على تعميم وانتشار التعليم حيث كان رجلا مفعما بالرغبة في فعل الخير بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معنى. ويقول نجل ضيفنا اللواء متقاعد أبو طالب بن محمد طاهر الدباغ :عندما اسند الملك عبدالعزيز رحمه الله المعارف للوالد رحمه الله كان في تلك الفترة قد وصل إلى قمة النضج الإداري والتربوي والسياسي أيضا حيث إن تجاربه في تلك المجالات قد استوفت حدها الأقصى بعد أن تقلب الوالد في مناصب إدارية مختلفة وأدرك من ممارسته التربوية والتعليمية من خلال عمله كمعلم في مدارس الفلاح ورحلاته لنشر العلم واهتمامه بإدخال الطرق الحديثة في التعليم وتوسيع قاعدته ليصل إلى كافة أرجاء البلاد المترامية الأطراف فبدأ فكرة تطوير التعليم في المملكة وإعداد المربين الأكفاء لهذه المهمة وإنشاء مدارس ليلية للمعلمين يتلقون فيها دروسا موسعة في العلوم الحديثة وطرق التدريس . افتتاح المدارس كان السيد الدباغ يرى أن الجسم المريض يجب أن يعالج أولا, ولهذا حرص وبدعم من الملك المؤسس أن يفتتح المدارس في مدن المملكة التي لم يشملها التعليم إلا إنه كانت هناك بعض العقبات والصعاب تحول دون افتتاح المدارس بسبب عدم وجود المعلم المؤهل، فما كان من الدباغ سوى التفكير في طريقة مناسبة لتجاوز تلك العقبات فتقدم باقتراح للملك فيصل الذي كان آنذاك - النائب العام للملك عبدالعزيز في الحجاز- بافتتاح مدرسة في الطائف لتعليم شؤون القضاء يجلب لها من الخارج والداخل خيرة المعلمين المؤهلين لتعليم الطلاب النوابه الذين سيلتحقون بها من اهل نجد وبقية مناطق البلاد ليكونوا قضاة نظرا لقلة القضاة واحتياج المدن والمناطق لقضاة مؤهلين. وقد ذكر العلامة مؤرخ الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر رحمه الله أن فكرة الدباغ التي تقدم بها إلى الفيصل أيده فيها الشيخ عبدالله بن حسن المشرف على الشؤون الدينية والقضائية في الحجاز في تلك الفترة. وبعد أن أيد الفيصل رحمه الله الفكرة واستحسنها قام بدوره بعرضها على جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله الذي أحالها إلى مفتي عام المملكة آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم الذي حبذ فكرة المدرسة على أن يكون أساس منهجها دراسة العقيدة السلفية الصحيحة. فقد أصبحت تلك الفكرة حقيقة ملموسة من خلال تأسيس مدرسة دار التوحيد بالطائف حيث احضر لإدارتها الشيخ محمد بهجت البيطار عالم بلاد الشام في تلك الفترة وأوكل إليه اختيار بعض مدرسيها بالإضافة إلى وضع منهج خاص للمدرسة. من هنا نستطيع أن نقول بأن الدباغ استطاع بدعم وتشجيع ولاة الأمر في البلاد أن يبدل وجه التعليم في البلاد مع التمسك بتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الدينية, وظهور مواد دراسية أخرى مختلفة لم تكن موجودة من قبل كالحساب والهندسة البدائية والقواعد والجغرافيا بالإضافة إلى التوسع في افتتاح مدارس جديدة ابتدائية حلت مكان الكتاتيب في المدن الكبيرة. شهادة مطاوع ويقول حامد بن حسن مطاوع الكاتب المعروف ورئيس تحرير الندوة الأسبق إن من أهم انجازات السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله وأبرزها تأسيس وافتتاح مدرسة تحضير البعثات بقلعة جبل هندي بمكة سنة 1359ه والتي أسست لتقيل عثرات الطلبة السعوديين المبتعثين إلى مصر قبل تأسيسها كونهم كانوا يتعثرون في دراستهم هناك لبعض المواد العلمية الأخرى ومنها الرياضيات واللغة الانجليزية. فعمل الدباغ على جعل مقررات تلك المدرسة موافقة لمناهج الدراسات الثانوية في مصر والدول العربية من خلال استقدام الأساتذة الأكفاء من مصر لتدريس الهندسة والعلوم والكيمياء والطبيعية كما قام بانتداب السيد إسحاق عقيل عزوز رحمه الله إلى المدينةالمنورة لإحضار المعمل الكيميائي الموجود بالمدرسة الأميرية الابتدائية بها لتستفيد منه المدرسة والذي يعد أول معمل استخدم في المدارس الثانوية في المملكة. فكانت مدرسة تحضير البعثات هي المهد الأول الذي احتضن جميع المبتعثين إلى خارج البلاد في تلك الفترة لمواصلة دراساتهم العليا في شتى التخصصات حيث تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1362ه كما سبق أن ذكرناه في الحلقة السابقة والتي ابتعث خريجوها إلى مصر مع خريجي الدفعة الثانية في عام 1363ه. فكانت تلك المدرسة المنطلق الأول للنهضة التعليمية التي أمدت البلاد بالجيل الأول من المتخصصين في مختلف العلوم والمجالات فهي بحق من أسمى أعمال وحسنات السيد الدباغ الذي بدأ في وضع اللبنات الأولى للتعليم والنهضة السعودية الشاملة. كما يشير الأستاذ حامد مطاوع أن السيد الدباغ لم يكتف فقط بالعناية بالدراسات العليا وتهيئة أسبابها فحسب بل قام ببذل الجهود الجبارة في سبيل نشر العلم والتعليم في كثير من مدن المملكة من خلال افتتاح المدارس التي هيأ لها المعلمين محققا بذلك رغبة الملك عبدالعزيز رحمه الله في ذلك وإصرار جلالته على إيصال العلم لجميع القرى والهجر في البلاد لإيمانه العميق بان بالعلم والفكر السليم تبنى الأمم . المناهج الدراسية ويكمل نجله اللواء أبو طالب الدباغ حديثة ل(الندوة) ويسرد ابرز ملامح السياسة التعليمية العامة لدى والده الدباغ والانجازات التي حققها حيث دعم في البداية المعهد العلمي السعودي بالمعلمين الأكفاء وقام بتطوير مناهجه ليستطيع خريجوه بالالتحاق بالجامعات ثم دار التوحيد التي تعد أحدى اللبنات القوية في بناء صرح التعليم الشامخ, ولعلها احد أقوى الصروح التعليمية تأثيرا في أبناء المناطق النائية التي تأخر انتشار التعليم فيها. بالإضافة إلى عمله على رفع مخصصات الميزانية العامة للتعليم في تلك الفترة وتحويل الاعتمادات المختلفة في بنود الميزانية الخاصة بالمعارف إلى أعمال إنشائية لإصلاح مباني المدارس وجلب الأدوات اللازمة لها. وكذلك تعديل المناهج الدراسية وتطويرها فنظم المقررات بحيث تتحول المدارس التحضيرية إلى مدارس ابتدائية وذلك بدمج المرحلة التحضيرية والابتدائية في مرحلة واحدة قدرها ست سنوات بدلا من سبع سنوات أيضا جعل الدراسة الثانوية ست سنوات بدلا من خمس كما قام بإنشاء فصول ثانوية بالمدارس الابتدائية في كل من جدةومكةالمكرمةوالطائفوالمدينةالمنورة وأبها والاحساء وجيزان وعدل أيضا في مناهج الدراسة الابتدائية من خلال زيادة المقررات كالرسم ومبادئ العلوم والهندسة وإدخال الرياضة البدنية لأول مرة في المدارس وجعلها مادة إجبارية على الطلاب وطلب لها المعلمين والمعدات اللازمة أيضا قام الدباغ بتأسيس الحركة الكشفية في المملكة من خلال تلقي الطلاب المشاركين فيها الدروس النظرية والعلمية وذكر الشيخ عثمان الصالح رحمه الله : (حينما كان الملك عبدالعزيز رحمه الله مهتما بالتعليم ويفكر في بثه ونشره وانه يرى فيه الثروة التي يجب أن يغرسها في بلاده فقد اختار وبمعرفة من الدباغ مدير المعارف مجموعة من المربين والمدرسين المدربين . وكان الدباغ رحمه الله حريصا على تحقيق رغبة الملك عبدالعزيز الذي يحب العلم والمعرفة ويتفانى في سبيلها فاستعان الدباغ في ذلك بمجموعة من نجد ضمها إلى من انتخبه من فضلاء مدارس الحجاز). كما يشير الأستاذ عبدالرحمن الصباغ أن السيد الدباغ كان يحرق نفسه ليضيء للسالكين من أبناء وطنه طريق الحياة الصحيحة ولقد كان الأساس الذي وضعه للنهوض بالتعليم أساسا متينا لم تزعزعه العواصف واخص ما في حركة السيد طاهر أنها أشاعت في الناس روح الإقبال على مناهل التعليم والدخول في المدارس والتسابق إلى الحصول على اكبر قدر من المعرفة. وعن انجازات السيد الدباغ المشرفة أيضا ذكر الشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط إمام وخطيب المسجد الحرام رحمه الله قيامه بتوسيع وتنظيم مدرسة الأمراء في الرياض والتي سميت فيما بعد بمعهد الأنجال ثم معهد العاصمة النموذجي حيث لم تعد قاصرة على الأمراء فقط بل أصبحت تضم مختلف الطبقات. ويشير الشيخ الخياط الى أن الدباغ حين كان مديرا للمعارف قام بترشيحه لتولي إدارة مدرسة الأمراء من أنجال الملك عبدالعزيز في الرياض ،كما يواصل الشيخ الخياط حديثه قائلا: إن الدباغ أبدى من الاستعداد الكبير لمساعدتي لو قبلت العمل الجديد, لذلك ترك لي اختيار هيئة التدريس التي تزاملني في العمل , وتلك خطوة مهمة في سبيل النجاح في المهمة. كما يشير الخياط أن جلالة الملك عبدالعزيز لثقته به أعطى الدباغ صلاحية مفتوحة في كل ما يتصل بوضع المدرسة وتنفيذ أي اقتراح دون عرضها على جلالته فكان ذلك ثقة غالية من ملك عظيم,فكانت نظرة الدباغ في الشخصيات التي يختارها لمزاملته. كما يواصل الخياط حديثة عن الدباغ فيقول : عندما كان الملك عبدالعزيز يصدر أمره بترحيلنا كل عام من مكة كان الدباغ يعني هذا كل العناية ليتم الترحيل سريعا ويذلل كل عقبة تكون باعثا على إرجاء السفر وتتطلب مراجعة لمسئول آخر في إدارة أخرى فكان الدباغ يتابع الموضوع بنشاط لا يعرف الكلل والملل برغم أن لديه مسؤوليات أخرى متعددة الجوانب. ويؤكد الخياط أن شخصية الدباغ لها أثر عظيم في نفسه. مثال النشاط والنزاهة فيما يقول عمر عبدالجبار رحمه الله في سفره (سير وتراجم) عشر سنوات قضاها الدباغ في المعارف قبل أن ينتقل إلى مجلس الشورى كان خلالها مثال النشاط والنزاهة وقوة العزيمة كان له الفضل بعد الله في حصول الكثير من حملة أعلى الشهادات العلمية والتخصصات الفنية من أبناء هذه البلاد الذين تلهج ألسنتهم بالثناء على العهد السعودي ورائده الأول فقيد التربية والتعليم السيد طاهر الدباغ الذي كان يقضي معظم الليالي ساهرا لوضع المناهج والخطط التعليمية وهو أول من فكر في وضع مناهج المدارس المتوسطة والتجارية والليلية لنشر التعليم بين كافة الطبقات.