من المخجل أن نظل نتحدث وننادي باستمرار ونكرر ونزايد على أهمية العمل وضرورة الإتقان فيه، وأن الانتماء والولاء من ضرورات الاستقرار والأمن والأمان، وأن القِيَم هي الروح التي تقوي العزائم وتشحذ الهمم، فقط مجرد إطلاق شعارات رنانة دون تطبيق حقيقي بأمانة، نزيلها ونمحوها خوفا من افتضاحنا تقصيرا عن التزامنا بها متى ما أردنا، ونرفعها ونعلقها زيفا ومراوغة متى ما استأسدنا وتجبرنا، وفي كلتا الحالتين من الإزالة والرفع؛ تكمن مصالح وفوائد، تُحاك أسرارها وتُنهى خططها على الموائد، كأنها غنائم حرب في الزمن البائد، تُوزع فيها الهبات وتُنثر وتُشاطر مع الأخلاء والأحبة العوائد، لكن الأمر لم يعد يُستأنس ولا مقبول لدى الواعين وهم كثر ولا زالوا سندا في الحقوق والتصدي للفساد وفي الشدائد، لأن الشعارات تلك بدت مكشوفة النوايا من مطلقيها ومنظريها وأصبحت كشماعات مهترئة بالية، لن ينجح طويلا من يعلق عليها التقصير والنقص والفشل، ويستند عليها لتمرير النفاق والتسويف والفساد والكسل، ويعتلي شغفا وكبرياء وانتماء للشيطان على أكتاف المستضعفين المخدوعين والمضللين بالأمل، واهما إياهم بالوعود المرجفة بنيل الحقوق بالعدل حين يُتقن العمل. لقد أبدعنا سلبا للوراء نحن المتأخرين، وتميزنا عن غيرنا من المتقدمين في اجترارنا للماضي والبكاء على أطلاله وإنجازاته التي دُفِنت معه، ففيه تكريس الضياع وتشتيت التركيز على النهوض والتغيير، وبما أن الشعارات تلك لا تمثل شيئا يُذكر ويُتَذكَّر في عرف الوعي والإبداع والنمو للذين تخطوا مراحلها منذ زمن بعيد جدا، فقد تحولت لدى الناضجين المتقدمين إلى عمل وإنتاج وتطبيق وإنجازات ذات معنى حقيقي على الأرض، حيث تعدت مرحلة الحلم والأمل لديهم، فتعلقوا بقوة على حبال الانتماء والولاء والتحدي للوصول إلى قمم النجاح والبقاء، بينما نحن لا زلنا نحبو وراء السراب ونجري جري الوحوش، لِنَزُفَّ بعضنا إلى القبور سقوطا من العروش، وإن عشنا فأموات أو دُمَيٍ جامدة ذات عيون ناعسة مشبوكة الرموش، هدفنا السطو والنهب والجثم على الصدور لِلَمْلَمَة القروش، حتى أصبح جمودنا سمة ووجاهة لعديمي الإحساس والشعور والمتفاخرين بتكبير الكروش. فما طرحناه ليس ببعيد ولا بجديد على العقول والأذهان، لكن هناك من يريد له أن يُدار ويُكَوَّر ليتدحرج في أودية النسيان، كي لا يقوم أبدا ولا ينهض ويقبع في أسفل القيعان، ليترك في حياتنا متعمدا أو جهلا الاستنفار السلبي التفكيكي والإثارة المقرحة للقلوب والأبدان، بدلا من الاستنفار الايجابي التكتيكي والإثارة المفرحة للقلوب والأبدان، وها نحن للتو قد أبتلينا بسجال وجدال في غير محله، يتكرر من وقت لآخر بهيئات مختلفة وبين فئات للأسف غير مؤتلفة، تمثل في إثارة الاستشاري النفسي طارق الحبيب أبناء الجنوب والشمال في ارتباطهم بدول الحدود والجوار أو في انتماءاتهم كما فُسِّرَ ومن ثََّم فُنِّد من قِبَلِه وبُرِّر، والذي استشاط واستثير على إثره غضبا كتاب ومثقفو الشمال والجنوب وغيرهم، متهمين إياه بالتشكيك بولائهم وانتمائهم، مع أن مفهوم الولاء والانتماء لا يزال غير واضح المعالم لدى الكثيرين ممن يرونه بعين واحدة، ويشقون استقامته بعصا مبددة، ويرقصون على أشلائه الممزقة بقلوب باردة، ويضيعون المجتمع ويؤخرونه ويشتتون أبناءه في قضايا شاردة، وإلا ما معنى الانتماء والولاء لغة وفعلا تطبيقيا بحذافيرهما بعيدا عن التشكيك نهائيا والمزايدة في الانتماء للخارج لأي مواطن أو فئة أو قبيلة، ونحن في ذات الوقت نرى أن الانتماء لعموم الوطن للداخل من الجوانب العملية والتنموية يشوبه الشك والتناقض، وأن التعطيل لمقدرات طاقات أبناء الوطن وشطب بعضهم أو استضعافهم وتهميشهم من قبل فئات مسيطرة ذات انتماءات محصورة ومنغلقة بينها من خارطة مواقع وقيادات عملية وتعليمية ووظيفية كثيرة، إلا دليل على خلل فهمي واستيعابي لمعنى الانتماء والولاء الحقيقي، في تكريسه للفرقة والأحقاد بين جميع الاتجاهات وجغرافيا المناطق، ولعل الحوار الوطني في دوراته ومن ضمن أهدافه ومعانيه وبدعم القيادة الحكيمة المتواصل له قد شدد على كل ما يجمع أبناء الوطن تحت سقف الأخوة والتعاون والنهوض بالوطن بعيدا عن الفرقة والتخاصم، لأن المصلحة الشاملة الوطنية أبقى وأثمر وأنمى من المصلحة الخاصة الشخصية المنحصرة، ولأن تطبيق العدل وإعطاء الحقوق وتوزيع الفرص وفقا للتكافؤ، هو مدعاة قوة للوطن ومتانة وحافز ومشجع لإتقان العمل بجد واجتهاد وبحب يلفه الولاء والانتماء. ومن هذا المنطلق؛ لا بد من وضع حد سريع لكل ما يعكر صفوة ونقاء وبراءة وراحة كل مواطن، مع التأييد لمن ينادي بسن قوانين تُجَرِّم من يتعدى على حدود المواطنة والتشكيك في الولاءات ويستغل نفوذه للسيطرة والهيمنة التي تهز أركان المجتمع وتحد من نموه ونهضته، والأهم توظيف القطاعات الرقابية بصرامة وبدقة لهذا الهدف وفتح الأبواب مشرعة لاستقبال أية انتهاكات وحرمان من الحقوق، والعمل على حلها ومعاقبة مرتكبيها ضمن قوانين عادلة تنطلق من مبادىء الدين الإسلامي الحنيف واستنادا على ما ستخرجه وبسرعة هيئة محاربة الفساد وحماية النزاهة من قوانين والتزامات تخص الجوانب العملية والوظيفية التي يصرخ من انتهاكاتها الكثيرون. وللموعظة واستخلاص العِبَر قبل أن ينزل الهم ويحل الكدر، ومن أجل الاستفادة والتصحيح واستغلال الوقت قبل فوات الأوان ويغيب القمر، ندعوكم إلى الدخول عمقا فيما تحاكيه وتشير إليه مباشرة وضمنا المواعظ وأشباه الحِكَم؛ “ونبدؤها بمن على رأسه بطحاء فليتحسسها، ومن ساحت قطرة من بوظة مثلجة على يده قبل أن تتسخ ثيابه فليلحسها، ومن غفل وأتى بخطيئة كبرى وتمادى فمن العسير عليه أن يطمسها، فالنار لعلمه حارقة ولهيبها مؤلم فليحذر أن يقربها أو يلمسها، وليفرك دماغه كما يُفرك مصباح الخيال لإخراج ظُلمِه وعتمة عقله قبل أن يهوى للأبد يتلبسها، ولا يسقط ويتزعزع في النهاية إن تغير وأصبح مستقيما صامدا قويا إن أتته مذمة من ناقص فليعلم أن كماله سيرفسها”.