مر أكثر من 11 عامًا على صدور الأمر الملكي لنظام مكافحة التستر التجاري، بتاريخ 22 يونيو 2004 (4/ 5/ 1425ه)، ومع ذلك تكتظ سوق العمل في السعودية بالعديد من مخالفات التستر، التي يعاني منها الاقتصاد السعودي، على أكثر من وجه. ورغم المواد ال15 الصارمة للائحة التنفيذية للنظام، إلا أن أفعال التستر لا تزال تطل بوجهها القبيح من وجه لآخر، حتى ظهرت قضية مؤخرًا بطلها وافد لبناني تحول مسارها آخر الأمر إلى “غسيل أموال”؛ حيث تم اكتشاف مبلغ مليار ريال في حسابه، حيث يدير فعليًّا شركة باسم أحد رجال الأعمال السعوديين، وتورط في القضية خمسة مسؤولين حكوميين كبار في وزارة الشؤون البلدية والقروية، أحدهم كان وكيل وزارة سابق. وتطورت تلك القضية وأخذت أبعادًا أوسع؛ حيث منعت الجهات المختصة سفر جميع المتهمين للخارج، كما خاطبت وحدة التحريات المالية لحصر حسابات الوافد اللبناني، والبحث عن أنشطته داخل السعودية، حيث يحاكم المتهمون الخمسة بما فيهم اللبناني ومع آخر من بني جلدته، خلال الفترة المقبلة، بالمحكمة الجزائية في جدة بتهم “غسيل أموال”، بعد أن بدأت بقضية تستر، حيث استعانت الجهات المختصة بما ورد في محضر الضبط المُعد من قبل وزارة التجارة والصناعة في القضية، إذ تضمن أدلة وقرائن تثبت قضية التستر على المتهمين بطرق غير نظامية، ومخالفة لأنظمة الدولة، إضافة إلى مخالفات عدة تم تدوينها في ملف التحقيق. تستُّر واضح.. مع استغلال نفوذ مشكلة المسؤولين الحكوميين الكبار في هذه القضية، أنهم تجاوزوا مسألة التستر إلى أبعاد أخرى من استغلال النفوذ، حيث استصدر هؤلاء المسؤولون من خلال نفوذهم، تعميمًا بمنع وضع الإعلانات على أسطح المباني والمنازل، بهدف تجيير كل ما يرتبط في تسويق هذا المشروع الاستثماري على الشركة التي يعمل فيها الوافدان اللبنانيان، على الرغم من أن الأنظمة تجيز وتسمح بوضع لوحات الإعلانات على الأراضي والممتلكات الخاصة، التي من ضمنها العمائر وأسطح المنازل. والشركة المعنية مالكها “صوريًّا” رجل أعمال سعودي، ويديرها أحد اللبنانييْن. ولهذا أجرت هيئة التحقيق والادعاء العام في جدة، خلال الفترة الفائتة تحقيقات موسعة بالتزامن مع استجواب رجل الأعمال والوافديْن اللبنانييْن، في إطار تحقيقات تمت بشأن جريمة التستر وتأسيس نشاط تجاري غير مرخص له. وأشارت المعلومات إلى وجود علاقة قديمة ومترسخة تربط بين الموظفيْن اللبنانييْن اللذين يعملان في شركة رجل الأعمال، والمتخصصة في الاستثمار بمشاريع الإعلانات والدعاية، بالتواطؤ مع موظفين في مراتب عليا وأصحاب قرار في إحدى “الشؤون البلدية”، إضافة إلى ارتباطهم مع قيادات كانت تعمل في أمانتي الشرقية والرياض. عقوبات نظام مكافحة التستر من ضمن المواد ال15 للائحة التنفيذية لنظام مكافحة التستر التجاري، جاءت العقوبات واضحة في المادة الرابعة، حيث جاء فيها: “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشدّ ينص عليها نظام آخر، يُعاقب المخالف لأحكام المادة (الأولى) من هذا النظام بالسجن مدّة لا تزيد على سنتين، وبغرامة لا تزيد على مليون ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتتعدّد الغرامة المنصوص عليها في الفقرة السابقة بتعدد الأشخاص المخالفين، والمحلات والمنشآت التي يمارَس فيها النشاط، وينشر منطوق قرار العُقوبة في واحدةٍ أو أكثر الصحف المحلية على نفقة المخالف”. ويشار إلى أن نظام مكافحة التستر التجاري نصّ على أنه “يجوز لغير السعودي- في جميع الأحوال- أن يمارس أو يستثمر في أي نشاط غير مرخّص له بممارسته أو الاستثمار فيه بمُوجب نظام الاستثمار الأجنبي أو غيره من الأنظمة واللوائح والقرّارات”. لكن النظام أوضح في مادته الأولى التستر حيث جاء فيه: “يُعدّ- في تطبيق هذا النظام- متسترًا كل من يمكّن غير السعودي من الاستثمار في أي نشاط محظور عليه الاستثمار فيه أو ممارسة أي نشاط محظور عليه ممارسته، سواء كان ذلك عن طريق استعمال اسمه أو ترخيصه أو سجله التجاري، أو بأي طريقة أخرى”. كما بيّنت المادة الثالثة من النظام على أن “على كل جهة تصدر تراخيص بممارسة أي نشاط متابعة المنشآت والمحلات التي رخصت لها؛ للتحقق من نظامية أوضاعها، وإبلاغ وزارة التجارة والصناعة بما تكتشفه من مخالفّات في مجال التستر”. ومنحت المادة الخامسة من نظام مكافحة التستر التجاري هيئة التحقيق والادعاء العام صلاحية طلب منع سفر من يثبت التحقيق ضلوعه في التستر، إلى أن يصدر الحكم النهائي في القضيّة، وأنه في حال صدر الحُكم بالإدانة يُبعد غير السعودي عن المملكة، بعد تنفيذ الحكم وسداد الضرائب والرسوم المستحقة أو أي التزام آخر، ولا يسمح بعودته إليها للعمل بعد ذلك. ويترتب على الإدانة بمخالفة أحكام هذا النظام- بحسب المادة السادسة- شطب السجل التجاري أو السجل الفرعي المتعلّق بالنشاط محل المخالفة، وإلغاء الترخيص، وتصفية الأعمال الخاصة بالنشاط محل المخالفة، والمنع من مزاولة النشاط نفسه مدة لا تزيد على خمس سنوات، وتستوفى- بالتضامن بين المتستِّر والمتستَّر عليه- الزكاة والضرائب والرسوم، وأي التزام آخرٍ لم يُستوفَ بسبب التستّر. رفض متزامن من المحكمة العليا المدهش أنه في أوج ظهور هذه القضية التي تمثل اختبارًا مهمًّا لنظام مكافحة التستر التجاري، خصوصًا مع ظهور مسؤولين حكوميين كبار بينهم وكيل وزارة على مسرحها، أكدت أنباء أن المحكمة العليا رفضت إصدار مبدأ قضائي بشأن قضايا التستر التجاري، على خلفية طلب رفعته وزارة التجارة بأن تمتنع المحكمة من النظر في أي دعوى تنطبق عليها ضوابط التستر التجاري؛ وذلك بناءً على ما رأته الهيئة العامة للمحكمة من أن هذا الموضوع مُعالج من كافة جوانبه؛ وفقًا للأنظمة واللوائح، حيث أوضحت أنه لا حاجة لإصدار مبدأ قضائي حول ذلك. ويأتي قرار الرفض بعد دراسة الهيئة العامة بالمحكمة العليا للموضوع من كافة جوانبه، مع الرجوع إلى الأنظمة ذات العلاقة، حيث يشير نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية على أنه “لا يجوز نقل أي قضية رُفعت بطريقة صحيحة لمحكمة مختصة إلى محكمة أو جهة أخرى، قبل الحكم فيها”. وأوضحت تلك الأنباء، أن الهيئة العامة بالمحكمة العليا بيّنت “أن الحق الخاص إذا أُحيل إلى المحكمة فإنه يُنظر فيه حسب الاختصاص؛ وفق المقتضى الشرعي والنظامي، وتُشعر الجهات ذات العلاقة بشبهة التستر التجاري؛ حسب ما صدر فيه من النظام، ولأنه لا يوجد تداخل بين الأمرين الموضوعي والإجرائي أو بين اختصاص وزارة التجارة وديوان المظالم والمحاكم؛ حيث إن وزارة التجارة مختصة بتنفيذ أحكام النظام بالتفتيش والتحرّي عن المخالفات وتلقي البلاغات وضبط المخالفات؛ بناءً على المادة الثانية من نظام مكافحة التستر والتحقيق ورفع الدعوى الجزائية ومباشرتها؛ من أجل مخالفة نظام التستر من اختصاص هيئة التحقيق والادعاء العام، وديوان المظالم مختص بالنظر والفصل في مخالفات أحكام هذا النظام وما يترتب عليه من عقوبات”. ومع ذلك، تؤكد دلائل تنامي التستر التجاري لأوضاع مشابهة للقضية الحالية التي ارتقت إلى مستوى “غسيل الأموال”، أن هناك حاجة لإصدار مبدأ قضائي في قضايا التستر التجاري؛ بحثًا عن تأكيدات المسوِّغ القانوني والرادع القضائي في الضبط والمحكوميات.