سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب.. أي هيبة تستشعرها النفس حين يرنّ في السمع صدى اسمها في مقام التجلي والاحترام، فيتجه الشوق إلى بيت النّبوة الطاهر، والعترة الشريفة، والدوحة الريانة.. وأي رهبة تتوجسها النفس حين تلتقط سيرتها من جوف التاريخ فإذا نحن أمام أديبة أريبة، ومحدثة لبقة، وناقدة بصيرة بألوان الأدب وبخاصة الشعر.. وإن لها في الشعر سهمًا وإن بدا خافتًا لا يظهر إلا في المناسبات، ولكنه يبقى صوتًا عرفه بيت النبوة، فأبوها سيد شباب الجنة، سيدنا الحسين بن علي، كان لها محبًا، ولرؤيتها مسرورًا، وإنه ليرد على من ينكر عليه ذلك من بعض أهله شعرًا بقوله: لعمرك إنني لأحب دارًا تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي وليس لعاتب عندي عتاب ولست لهم وإن عتبوا مطيعًا حياتي أو يغيبني التراب والرباب هي أم سكينة، وهي بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي، سبقت «سكينة» نساء الدنيا جميعًا حين أخذت المبادرة بتأسيس منتدى للأدباء والشعراء، على ما هي عليه من تقوى، وورع وعبادة لله العزيز الأجل، وعلى هذا فليس من الخروج في شيء القول إنها أول من أسس صالونًا أدبيًا بلغة اليوم، كانت سيدة نساء عصرها ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن خلقًا.. كانت تميل إلى الفكاهة والمزاح تخالط الأجلة من قريش ويجتمع عندها الشعراء.. جمعت عزة النسب وعزة الجمال وأناقة المظهر وظرف السجايا وذكاء الأنوثة ولطف الدعابة وذوق أصيل وفقه لأسرار البيان. إن سيرة السيدة سكينة تذهب بها الكتب مذاهب مختلفة، فثمة من يحفظ لها المقام المبجل في بيت النبوة، مظهرًا ميلها الأدبي بطريقة تتفق وذات المكانة المهيبة التي تكلل هامتها، مرددًا تعليقها على أبيات لجميل بثينة يقول فيها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي القرى إني إذًا لسعيد فكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل بينهن شهيد لتدرك السيدة سكينة ما يستبطنه الشاعر من معنى في جوفه أبياته، فقالت معلقة: «جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء»، أما صوتها في الشعر فلا أثر له إلا في رثاء أبيها شهيد كربلاء، لتقطر دمعتها الحّرى عليه، وهي أبيات خليقة بأن تكون منها، لما اشتملت عليه من رثاء بدمع غير مكذوب، وشجى غير مدخول: إنّ الذي كان نورًا يُسْتضاءُ به بكَرْبُلاءَ قتيلٌ غيرُ مدفونِ سبطَ النبيِّ جزاكَ اللّهُ صالِحةً عنَّا وجُنِّبْتَ خُسرْانَ الموازينِ قدْ كنتَ لي جَبَلاً صعبًَا ألوذُ به وكُنْتَ تصحبُنا بالرُّحْم والدينِ منْ لليتامى ومنْ للسائلينَ ومن يُغٌني ويُؤْوى إليه كلَّ مسكين واللّهِ لا أبتغي صِهْرًا بِصِهْركمُ حتى أُغَيَّبَ بين الرملِ والطينِ والبعض يذهب إلى نسبة القصيدة إلى أمها السيدة «الرباب»، وأي ذلك كان فلا يهم، فاهتمام السيدة سكينة بالشعر والأدب أمر لا يختلف عليه المعتدلون في سيرتها والمشتطون على حدٍّ سواء، فالمعتدلون يرسمون لها صورة اهتمام بالأدب لا تبذّل فيها، ولا خروج عن الصورة المحفوظة لآل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي مقابل ذلك تُرسم صورة للسيدة سكينة لا تحفّظ فيها ولا تحرّج من جعلها متطلعة لسماع الأغاني، مثنية من يزهد في الغناء الرجوع إليه بالحلف عليه بالأيمان المغلظة ثلاثًا، كما يدوّن ذلك صاحب كتاب «الأغاني» أبوالفرج الأصفهاني، وقصة ذلك واردة في كتابه بأبطالها؛ السيدة سكينة، «ابن سريج» المغني، و»أشعب» الفكه، بل إن الأصفهاني ليذهب بشخصية السيدة سكينة في معرض معرفتها بالشعر ومجادلتها للشعراء شأوًا أبعد، فيورد ما كان بينها وبين الشاعر الفرزدق، حيث يقول: [عن المدائني قال: خرج الفرزدق حاجًا، فمر بالمدينة، فأتى سكينة بنت الحسين فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت أشعر منك الذي يقول: بنفسي مَنْ تجنُّبُهُ عزيزٌ عليَّ ومَنْ زيارتُهُ لِمامُ ومَنْ أُمسي وأُصبحُ لا أراه ويطرقني إذا هجع النّيامُ فقال: فوالله لو أذنتِ لي لأسمعتك أحسن منه، فقالت: أقيموه، فأُخرجَ. ثم عاد إليها في اليوم الثاني، فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول: لولا الحياءُ لهاجني استعبار ولَزُرْتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ لا يلبث الفرقاء أن يتفرقوا ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ كانت إذا هجر الضّجيعُ فراشَها كُتمَ الحديثُ وعفّتِ الأسرارُ فقال: أفأسمعك أحسن منه؟ قالت: أُخرجْ ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها ظبية، فاشتد عجبه بها، فقالت: يا فرزدق من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول: إنّ العيونَ التي في طرفها حورٌ قَتَلْنَنَا ثمّ لمْ يحيين قتلانا يصرعن ذا اللُّبِّ حتى لا حراك له وهنّ أضعفُ خلقِ الله أركانا ثم قالت: قم فاخرج، فقال لها: يا بنت رسول الله، إن لي عليك لحقًا، إذ كنتُ إنما جئت مسلمًا عليك، فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردتُ أن أُسمعك من شعري ما ضاق به صدري، والمنايا تغدو وتروح، ولا أدري، لعلي لا أُفارق المدينة حتى أموت، فإن متُّ فمري من يدفنني في (...) هذه الجارية التي على رأسك. فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من ثيابها، وأمرت له بالجارية، وقالت: أحسِنْ صحبتها، فقد آثرتك بها على نفسي. قال: فخرج وهو آخذ بثوبها. إن بين الصورتين؛ في جلال وهيبة السيدة سكينة أولاً، وصورتها التي يوردها صاحب الأغاني مسافة ليست بالقصيرة، تملؤها الآراء المتقاطعة بالنكران الكامل لما يورد، مع رمي أصحابها بالنعوت المستنزلة من قدرهم والمفتشة داخل نواياهم التي ساقتهم إلى إيراد من يسجلونه بوصفه التاريخ، وثمة آراء تعتقد فيما سجل وتأخذه على اعتباره التاريخ سكت عنه الرواة الرسميون وسجله المؤرخون الاجتماعيون.. فالله أعلم أي ذلك كان. فقد مضت السيدة سكينة رضي الله عنها إلى بارئها مخفورة بشرف الانتماء إلى بيت النبوة الشريف بمكة المكرمة يوم الخميس الخامس من ربيع الأول عام 126ه، وصلى عليها شيبة بن النطاح المقرئ، كما في كتاب «درر الأصداف»، وهذا على خلاف ما هو وارد في «تاريخ ابن خلكان» الذي يسجل تاريخ وفاتها في عام 117ه وكانت وفاتها بالمدينة. رحم الله السيدة سكينة، فإن في سيرتها مساحة للتأمل، ومشهدًا للوقوف، ويكفيها في الأدب فخرًا أنها قد استنت للنساء من بعدها نافذة الصالونات الأدبية.