على مدى أسابيع منذ بدأت حملة الانتخابات الرئاسية المصرية، كرر المرشح الرئاسي حمدين صباحي تحديه لمنافسه عبد الفتاح السيسي أن يواجهه في مناظرة عامة أمام جمهور الناخبين،دون أن يلقى رداً، وهو ما صورته حملة صباحي باعتباره تهرباً من مواجهة يعرف السيسي أن حمدين سيربحها حتماً، وقبل نحو أسبوعين من بدء الاقتراع، راحت حملة صباحي تلح على جمهور الناخبين: أين برنامج السيسي؟ هل سمعتم من قبل عن مرشح بلا برنامج؟ وبدا لوهلة أن إلحاح حمدين وحملته على مناظرة السيسي وكذلك على أن يعرض برنامجه على الجماهير، يؤتيان أكلهما حتى بين بعض شباب حملة السيسي، ممن كانوا يرجئون تحركهم بانتظار البرنامج أو حتى مجرد "رؤية" عامة لما يعد به الرجل أو يستشرف به مستقبل البلاد والعباد. غير أن الانتخابات بدأت كما نعرف، وانتهت بما نعرفه الآن، باكتساح كامل من قبل السيسي لمنافسه حمدين صباحي،بنسب غير رسمية تقترب - حتى ساعة كتابة هذه السطور- من 93% من بين أصوات نحو 26 مليون ناخب، ما دفع مراقبين زملاء وأصدقاء الى التساؤل عما اذا كان صباحي المهزوم يستحق "رتبة" منافس أم لا؟ غير أن السؤال عندي يبقى هو: لماذا تمكن السيسي من تحقيق فوز ساحق بلا مناظرات ، ولا برنامج معلن، ولا حملة "تقليدية" كما قال هو نفسه؟!.. هل غامر 93% من المصريين بالتصويت لمرشح رئاسي لم يبذل لهم أية وعود، ولم يخرج حتى لمبارزة سياسية أو انتخابية مع منافسه أمام الناس، مستظهراً قدراته اللغوية والخطابية؟! في تقديري أن التكييف السياسي للحالة لدى المشير عبد الفتاح السيسي، هو ما قاد المشهد الانتخابي على النحو الذي رأيناه، فالرجل قد أصر منذ البداية على أن الجماهير قد استدعته وكلفته وأنه - كجندي- قد تجاوب مع النداء ولبى الاستدعاء، ومن ثم فهو ليس مرشحاً بالمعنى التقليدي للمرشح، اذ ثمة فارق أكيد بين من يطلبه الناس، وبين من يطلب رضا الناس، وما دام السيسي بنظر نفسه ليس مرشحاً، فإنه ليس مضطراً لأن يسلك سلوك المرشحين، فيناظر هذا، ويتحدى ذاك، ويستعرض برنامجه لهذا، ويبذل وعوده لذاك. الاستاذ محمد حسنين هيكل، هو من قام مبكراً بتفكيك شفرة السلوك السياسي للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، حين وصفه بأنه " مرشح الضرورة" وإن كنت قد رأيت في هذا الوصف اعتسافا يضر بالسيسي أكثر مما ينفعه،اذ تسقط الضرورات بسقوط موجباتها، لكن هذا الوصف قد أتاح لاحقاً تكييف حالة السيسي باعتبارها استدعاء لا ترشحاً، ثم إن الأستاذ هيكل هو من قال - في وقت مبكر أيضاً- ان السيسي قد لا تكون لديه حملة مرشح رئاسي كتلك التي اعتادها الناس، وانما هى ،حملة "غير تقليدية" أي تخلو من المناظرات والبرامج والاحتكاك اليومي بالجماهير طلباً لأصواتهم. ما جرى، هو بالضبط ما أراده السيسي، وما توقعه هيكل، ولكن يبقى السؤال: كيف استطاع السيسي أن يحصد قرابة 93% من أصوات الناخبين دون حملة أو برنامج، وبلا مناظرات ولا مباريات رئاسية؟! هل قدم المصريون شيكاً على بياض للمشير السيسي؟! حجم الانتصار الكاسح الذي حققه السيسي على منافسه صباحي، قد يعود في أغلبه الى "الخوف" الذي هيمن على غالبية المصريين، منذ اعتلاء الاخواني محمد مرسي كرسي الرئاسة في 30 يونيو من العام الماضي،فلأول مرة في تاريخهم، يواجه المصريون خطر انهيار أقدم دولة مركزية في التاريخ، ولأول مرة يذوق المصريون هوان الاستعلاء الإخواني المرضي على سائر الشعب من غير الإخوان، ولأول مرة منذ عصور الاضطهاد الروماني، يذوق أقباط مصر هوان استباحة كنائسهم وحتى أجسادهم على يد من ظنوا ان الدنيا قد دانت لهم وأنهم موكلون بتطبيق ما يظنون أنه شرع الله طبقا لمفاهيم مغلوطة عندهم. عام من الهوان والخوف (من) المستقبل، هو ما مهد طريق "الضرورة" للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي،بعدما استطاع بشجاعة تحسب له أن يزيح عن صدر الوطن أثقل أعبائه وأرذلها، وهذا العام ذاته ، وما أعقبه من ارهاب قادته جماعة الإخوان ،هو ما كتب برنامج السيسي وهو ما صاغ رؤيته لمستقبل "بلا خوف" وهو أيضا ما اتاح للسيسي الفوز بتأييد 93% من الناخبين في انتخابات فريدة و"غير تقليدية" أيضاً. اللافت، أن ما كان يقوله صباحي في حملته الانتخابية هو نفس ما قاله السيسي في حوارات تليفزيونية حملت أفكاره وتصوراته الى الناس، كلاهما تحدث عن محاربة الفقر وعن تحقيق العدالة الاجتماعية وعن تطوير التعليم والصحة، كلاهما حاول الاقتراب من رؤية عبد الناصر، لكن اسرة عبد الناصر ذاتها طالبت صباحي بالكف عن استخدام اسم ناصر في حملته معلنة تأييدها للسيسي، أما البسطاء من المصريين فقد اختاروا التصويت لمن يملك نجاعة الفعل ضد من يملك فصاحة القول، فقد شبعوا كلاماً في الماضي كاد تصديقهم لمن يرددونه أن يرديهم موارد الهلاك. عقب إعلان النتائج الاولية، جاءني صوت أمي مبتهجاً عبر الهاتف: "مبروووك مصر رجعت لنا تاني".. هكذا لخصت أمي معركة انتخابات الرئاسة فهى معركة الاستقلال الثاني لمصر التي عادت لنا مجدداً. [email protected]