بعد خوض تجارب عديدة في معارض الكتب ما زال سؤال الرقابة عالقاً، وفي كل عام يتجدد الجدل حوله؛ فإلى أي مدى ساهمت أو تساهم الرقابة الشرعية أو القانونية في الحد مما تريد منعه؟ أليس لكل دولة خصوصيتها وهويتها التي تسن القوانين للمحافظة عليها؟ وما جدوى الرقابة في ظل السماوات المفتوحة والانفتاح العالمي وحرية التبادل الفكري؟ وهل صحيح أن هناك من الكتاب من يتعمد تضمين بعض الأفكار والعبارات المثيرة حتى يمنع كتابه وينال شهرة من وراء ذلك المنع؟ (الرسالة) طرحت قضية الرقابة الشرعية على الكتب في ثنايا الاستطلاع التالي: في البدء قال الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بجامعة الطائف د.جميل اللويحق إن الرقابة مطلب يتعلق بالقيم الحاكمة والموجهة للمجتمع أصلا وليست مرتبطة بسهولة أو صعوبة الوصول للممنوع، وفرق كبير بين أن يعلن المجتمع من خلال الجهات ذات العلاقة رفضه لما يصادم مبادئه حتى وإن تسللت من الباب الخلفي وبين أن يشرعن هذا الوجود لهذه الكتب السيئة من خلال الأذن بدخولها، وأكد اللويحق أن المنع والرقابة تتفق مع نصوص كثيرة وردت في الشريعة تدل على أن من شأن المصلح أن يتحرك بالإصلاح حتى مع غلبة الباطل، وأن ذلك فقط هو ما سينجيه من العقوبة إن وقعت. وعن مواجهة الفكر بالفكر فقال اللويحق أن هذا كمبدأ عام. وأوضح اللويحق ذلك بأننا لو أطلقنا القول بحرية الفكر وأنه لا يواجه إلا بمثله فسنضطر مثلا للسماح بافتتاح قناة فضائية تدعو للرذيلة صباح مساء وتحسنها بالكلام والقصة وغيرها دون أن تعرض الرذيلة بناء على أن ذلك فكر ورأي، ولا يقول بهذا أحد لظهور فساد المطروح وخطره ولكون ضرره محل اتفاق؛ فالحرية المطلقة كما هو معلوم لا وجود لها في الدنيا كلها ولابد من قيود لتستقيم حياة الناس . عقوبات شرعية أما رئيس الجمعية العلمية للحسبة أستاذ الفقه المشارك بجامعة أم القرى؛ د.خالد الشمراني فيؤكد أن نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة؛ تدل على أن ما يكتبه الإنسان بقلمه، هو مثل ما ينطقه بلسانه، وهو مسؤول عنه ومؤاخذ عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فكما أن الإنسان لو تلفظ بألفاظ الكفر والزندقة والنفاق أو طعن في أعراض الناس أو نشر الفاحشة؛ يؤاخذ على ذلك، فكذلك يؤاخذ بما سطره في كتاب أو رواية أو غيرهما. ورد الشمراني على من يقول إن الفكر يواجه بالفكر فقط، قائلاً: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، فمع وجوب الرد على أصحاب الأفكار الضالة والمنحرفة لكن هناك شيء آخر، وهو العقوبات الشرعية؛ فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحق والرد على المبطلين يدخل في ذلك دخولاً أولياً. وأضاف الشمراني: إن من واجبات السلطة السياسية في الإسلام؛ إقامة الدين وسياسة الدنيا به؛ ومن إقامة الدين تعليمه والدعوة إليه ونشره، وكذا حماية أديان الناس من أن يفسدها عليهم أحدٌ ببدعة أو شبهة أو كفر. ولفت الشمراني أنه حتى من تكلم في القضايا التجريبية والعلمية البحتة من غير علم؛ كالطبيب الجاهل الذي يدلس على الناس ويغرر بهم ويلحق بهم ضرراً، فإنه يعاقب ويردع، ولا يقال إن ذلك فكر يرد عليه بالفكر، ورأي طبي يرد عليه برأي؛ وإنما لا بد من أن يعاقب عقوبةً رادعة. وعن ظهور المنافقين الذين كانوا يتكلمون بما يخالف الإسلام في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ورغم ذلك لم يكن يقيم عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم العقوبات قال الشمراني: لأنهم منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ وإذا جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذروا وحلفوا له ما قالوا كلمة الكفر. وحول الكتب الفكرية التي لا تدعو صراحة إلى الكفر وإنما بها وجهات نظر تخالف ما هو سائد ومتعارف عليه أشار الشمراني إلى أنه إن كانت تلك الكتب صادرة عن أناس متخصصين وكانت آراؤهم داخلة في دائرة الاجتهاد كأن يناقش المؤلف مسألة فيها خلاف بين العلماء، أو هي من النوازل وتكلم فيها بالدليل؛ فالإنكار في مثل هذه القضايا يكون إنكاراً علمياً (ببيان الحجة وإيضاح المحجة) حسب تعبيره. واستدرك الشمراني على من يأتي ويخبط خبط عشواء -كما يقول -وهو ليس من أهل الاختصاص ويتكلم في مسائل الشريعة من غير برهان مثل: من يأتي وينكر حد الردة زاعماً أن الردة جريمة سياسية لا تنطبق على من كفر ما لم يخرج على النظام السياسي. مخالفاً للنص وخارقاً للإجماع، فلا يقبل مثل هذا القول لأنه لا اجتهاد مع النص. لكن الشمراني أوضح أنه مع ذلك لو تحدث أحد في قضية مخالفة لقول الجمهور بحجة وبرهان ودليل فإنه يمكن أن يرد عليه بالحجة والدليل فقط. وعن جدوى المنع والرقابة في ظل الفضاءات المفتوحة ومع ثورة التقنية والمعلومات أوضح الشمراني أن المسؤول يجب عليه أن يجتهد في تقليل الشر حتى لو لم يستطع أن يمنعه بالكلية، مؤكداً أن محاصرة الكتب المفسدة أو المسيئة ستقلل الشر بلا شك. وأضاف أنه حتى في حالة عدم تقليل الشر فإن الإنسان يقوم بما أوجبه الله عليه "ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها". لا ترويج مع المنع ونفى الشمراني أن يتسبب المنع في الترويج لمثل هذه الأفكار مضيفاً أن المنع ليس الحل الوحيد وإنما هو جزء من الحل مبيناً انه في حالة انتشار مثل هذه الأفكار ورواجها؛ فإنه يجب أن يكون هناك رد عليها وتعريتها مع بيان ما فيها من خلل وفساد. وأوضح أن هذا من حفظ الضرورة الكبرى من الضرورات الخمس وهي ضرورة الدين، والعلماء يقولون إن حفظ الدين يكون من جانبين: من جانب الوجود، ومن جانب العدم؛ فمن جانب الوجود بوضع التدابير التي تكفل استمراره مثل الدعوة إلى الله، ونشر العلم الشرعي، أما حفظه من جانب العدم فيكون بمنع البدع والمحدثات وتطبيق العقوبات والحدود الزاجرة، ومنع كل ما قد يلحق ضرراً به. كما رد الشمراني على من يقول إن المجتمع مجتمع متدين ولا يمكن أن تؤثر عليه مثل هذه الأفكار، وإلا أصبح المجتمع مجتمعاً هشاً والثقافة الإسلامية فيه ليست ثقافة أصيلة قائلاً: إن المجتمع حتى وإن كان متديناً فإنه لا يمكن أن يكون مثل مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام ومجتمع الصحابة، وهم مع ذلك أقاموا العقوبات وعزروا من ابتدع بدعة أو تكلم بغير علم أو ألحق ضرراً بأديان الناس أو دنياهم. وأشار الشمراني إلى أنه يلزم من هذا المنطق عدم إقامة العقوبات الشرعية على العصاة كالزناة وشاربي الخمر ومهربي المخدرات؛ لأن المجتمع مجتمع محافظ ومتدين، وهذا لا يقول به أحد، موضحاً أن الرقابة الشرعية على الكتب ليس لها علاقة بقوة المجتمع أو ضعفه وإنما هي تدابير لحماية الهوية والحفاظ عليها. وتابع الشمراني إن مما يؤسف له التراخي الشديد، وضعف الرقابة في معارض الكتاب الدولية التي تقام في المملكة، مما جعل هذه المعارض ميداناً لتداول كتب الكفر والإلحاد والانحرافات الخلقية مطالباً وزارة الثقافة والإعلام وجميع الجهات الرقابية بممارسة دورها الذي تمليه عليها الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية. في أضيق الحدود من جانبه يرى الكاتب والإعلامي د.سعود كاتب أن هناك شكل من أشكال الرقابة في كل دول العالم وإن كانت تختلف من دولة إلى أخرى، لكن في العصر المعلوماتي الحاضر فإن الرقابة أصبحت غير مجدية تماماً لأن أي كتاب يمنع في شكله الورقي يستطيع أن ينتشر بكل الأشكال على الانترنت؛ لذلك لا يؤيد كاتب الرقابة لكنه في ذات الوقت لا يعني ذلك فتح الباب على مصراعيه، كما هو الحال في القنوات التلفزيونية حيث لا يمكن أن نسمح بالأفلام الإباحية كذلك الحال في برنامج اليوتيوب؛ لذلك يرى كاتب أنه ضد الرقابة وإن كانت فإنها تكون في أضيق حدود ممكنة. وعن تفسير هذه الحدود الضيقة التي يمكن أن تختلف فيها الآراء والتيارات أشار كاتب إلى أن التيار الإسلامي يرغب في رؤية كثير من الكتب ممنوعة، وهم أكثر تيار يحرص على منع الكتب. وقال كاتب إنه يتمنى أن يدرك هذا التيار أن المنع ليس هو الحل وإنما الحل يكمن في الإقناع خاصة في هذه الأيام. وعن تخفيف الشرور التي يمكن أن تجنيها الرقابة على الكتب كما يقول دعاة المنع يشير كاتب إلى أن المنع يصنع دعاية للكتاب ويساهم في نشره. وكشف كاتب أن كثيراً من الكتاب يتعمدون كتابة كلمات أو أفكار بقصد أن يمنع الكتاب ومن ثم تزيد شعبيته، ويزيد الطلب عليه وبالتالي سيخدم الكتاب بشكل كبير حتى لو أنه لا يستحق. وضرب كاتب مثالاً قديماً على ذلك بكتاب "آيات شيطانية" لسلمان رشدي الذي قال إن هناك شبه إجماع على أن الكتاب في "منتهى التفاهة"، ولا يحتوي على أي مضمون يستحق. ورغم ذلك فقد كان كتابه الأكثر مبيعاً، وأخذ جوائز عالمية واشتهر من وراء ذلك الكتاب وعملت له دعاية بسبب منع كتابه. وعن الحافظ على هوية المجتمع وثقافته التي يتوجب على السلطات رعايتها أشار الكاتب إلى أن العالم الآن أصبح يعيش في قرية عالمية واحدة، وأصبحنا نتجه إلى هوية دولية وعالمية شئنا ذلك أم أبينا، وأضاف كاتب أنه لا يمكن أن تحافظ على هويتك بالمنع والقفل وإنما تتم المحافظة على الهوية عن طريق المجتمع والشعب نفسه الذي يثق في هويته ومدى استحقاقها للمحافظة والرعاية. أما إذا كانت هويتنا بهذا الضعف والهشاشة التي تمكن أي شيء من إزالتها، فهذا يعني أن هذه الهوية فيها خلل أو عيب. وأوضح كاتب أن الحفاظ على الهوية يكون عن طريق التعليم وتحسين مستوياته، وتنمية الهوية الثقافية وتنمية حب الناس لها وتمسكهم بها، لكن محاولات المنع ووضع سياج حول الهوية سيزيد من رغبة الناس في الهرب من هذه الهوية. الحبيب: قوانين النشر لا تتأسس من موقف سلبي مذعور وأشار الكاتب والباحث د.عبدالرحمن الحبيب إلى أن في الدول الديمقراطية الحالة مختلفة تماماً؛ فهناك محاسبة وليس رقابة لأنها تتم بعد النشر وليس قبله، أي أنك في الدول الديمقراطية تستطيع أن تنشر كل ما تشاء ولا يوجد شيء اسمه ترخيص لنشر كتاب. كما أشار الحبيب إلى أن هذه المحاسبة بعد النشر تتم ضد التجاوزات على حقوق وحريات الآخرين، ولا تبنى على الحجر على الأفكار بل وفقاً للقانون والتشريعات وتخضع للقضاء، وأكد الحبيب أن هذه المحاسبة ليست خاضعة لسيادة تيار على التيارات الأخرى، أو للسياسة ولرجال الدين. كما أوضح الحبيب أن هذه التشريعات لا تمس حقوق الإنسان في حرية التعبير والإبداع إلا في حالة اعتدائها على حريات الآخرين. لكن الحبيب أشار في ذات الوقت إلى حالات نادرة في الدول الغربية قد تضاد حرية التعبير مثل دعوى العداء للسامية. أما القول بأن ثمة كتب تهدد هوية المجتمع وثقافته فذلك – في تقدير الحبيب – ينم عن عقلية وصاية على عقول الناس بزعم حمايتهم. وحتى لو أن هذا الزعم سليم فإن الحبيب يرى أنه أصبح غير ممكن عملياً في زمن الإنترنت والعولمة؛ لأن ما تمنعه هنا من كتب مثلاً هو موجود بآلاف مضاعفة في جهازك الإلكتروني. كما يرى الحبيب أنها رؤية منغلقة تلك التي ترى أن المجتمع هش لدرجة أن كتاب أو عمل فني يمكن أن يهدده، فلا يهدد هوية المجتمع وثقافته مثل الانغلاق عندما يكتشف أفراده ثقافات الآخرين. وعن قصر البعض مجالات الإبداع في الكتابة عن ما يثير المجتمع وثقافته أجاب الحبيب بأنه لا يمكن الحجر المسبق على الإبداع بحيث يقال للمبدع تطرق لهذا المجال ودع ذاك، فتلك الوصفة الأولى لتثبيط الملكات والمهارات. وأضاف الحبيب أنه يجب أن يكون الإبداع متاح في كافة المجالات سواء كانت مثيرة أو غير مثيرة، والمجتمع إذا سمح لمائة زهرة أن تتفتح سيتمتع بذلك وسيمتلك حصانة ذاتية ضد ما يهدد ثقافته. وعن كيفية تقنين وضبط عملية النشر بما يضمن حرية التعبير والإبداع للمؤلفين في ذات الوقت الذي يضمن المجتمع سلامة هويته أوضح الحبيب أن التجديد في الثقافة والفكر لا يهدد سلامة هوية المجتمع بل يطورها، وأضاف أنه أمامنا الآن مئات الفضائيات العربية تضم كافة التيارات والطوائف فيها المتطرف والمعتدل، وبين أيدينا الإنترنت به كل أفكار وسلوكيات العالم مفتوحة لنا، ولم يهدد ذلك سلامة هويتنا. مبيناً أن قوة هويتنا تنبع من داخلها وليس من خارجها، ومن إثبات الذات وليس من خلال نفي الآخر. كما أكد على أن سلامة الهوية لا تتأتى من المنع والحجب والرقابة ومصادرة حريات بعض أفراد المجتمع، وإنما تستمد هويتنا قوتها من الثقة في النفس وتمتع أفراد المجتمع بالحرية والعدالة الاجتماعية؛ لذا على قوانين النشر أن تتأسس من التشريعات المنفتحة المنطلقة من موقف صحي إيجابي، وليس من موقف سلبي مذعور. المزيد من الصور :