يؤكِّد الدكتور علي عبدالحميد أنَّ السُّورة القرآنيِّة قد طبعت بطابع السِّياق العام، فتراها في جميع أجزائها ونظمها قد روعي فيها ذلك. ولهذا نراه ويضرب مثلاً بقصة آدم عليه السَّلام في سورتيّ البقرة الأعراف، حيث تجد السِّياق هناك قد طُبعت بطابع السِّياق الممتد، ومن ثمَّ استوجب نوعاً من النَّظم يلائم ويتناغى معه، وهو بعينه ما تجده في "الأعراف"، حيث تجد الدِّقة في البناء التَّركيبي تبعاً لاختلاف السِّياق عمَّا هو هناك. فسياق القصِّة في البقرة سياق تكريم وأنعام، حيث ذكرت أوَّل قصة فيها وهي قصة آدم –عليه السَّلام- عقب قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهذه مشتملة على تكريم الإنسان جميعاً كما في صدرها، ثمَّ خُتِمت بالعلم؛ ولذا جاءت قصِّة آدم –عليه السَّلام- بعدها مبنيِّة على تكريم آدم في استخلافه، وإسجاد الملائكة له، ثمَّ تكريم العلم. أمَّا من حيث البناء التركيبي للقصة فقد جاء ملائماً لذلك التكريم، فجمع لإبليس –لعنه الله- بين (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) في البقرة خصوصاً دون غيرها؛ للدلالة على شناعة معصيته بحق الذي أكرمه الله وعلَّمه. ثمَّ أسند القول إلى نفسه في البقرة: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا..) قد اطَّرد النَّظم القرآني في إسناد القول لنفسه في مقام التَّكريم والتَّعظيم، ثمَّ ذكر: (رَغَداً) في البقرة؛ زيادة في التَّكريم والإنعام، ثمَّ أطلق الظَّرف: (حَيْثُ شِئْتُمَا)، وهذا هو المناسب لمقام التكريم. ثمَّ قلَّل من معصية آدم –عليه السَّلام- في قوله: (فأزلَّهما الشَّيطان عنها)؛ فالزَّلة قد تكون في الموضع نفسه، فخفَّف المعصية وسمَّاها زلة مراعاة لمقام التَّكريم. أمَّا في سورة الأعراف فقد اختلف السِّياق فاختلف النَّظم تبعاً لذلك؛ لأنَّ السِّياق في الأعراف سياق عقوبات وإهلاك الأمم الظَّالمة، وهذا ما تجده في وقوله: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ. فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، ثمَّ في بيان العتاب على بني آدم ومؤاخذتهم على قلِّة شكرهم، في قوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)، ومن ثمَّ جاء البناء التَّركيبي متناغياً مع ذلك، والتَّكريم ثانويّاً، والعتاب بارزاً، تدبَّر قوله: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، فلم يسند القول إليه -كما فعل في البقرة-، ولم يذكر (رَغَداً)، وقيَّد الظَّرف بقوله: (من حَيْثُ شِئْتُمَا) حتَّى يقتصر على الأكل فقط؛ مع أن التَّخيير في البقرة أوسع؛ لأنَّها تشمل السَّكن، والأكل جميعاً بخلاف الأعراف. كما أنَّ المولى –عزَّ وجل- قد سمَّى المعصية في الأعراف "تدلية" في قوله: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) فالتَّدلية لا تكون إلاَّ إلى أسفل، كما أنَّه -سبحانه- ذكر في الأعراف معاتبته –سبحانه- لهما في قوله: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، لمناسبة هذا العقاب لآدم –عليه السلام- وزوجه، عتاب أبنائهما في السِّياق في قوله: (قليلاً ما تشْكُرون)، ولذا صرَّح آدم عن نفسه بالمعصية في الأعراف، واعترافه بالظُّلم في قوله: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، حيث لاءم ذلك اعتراف ذريتهما في السِّياق بالظُّلم في قوله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، حيث اختلاف البناء في كلٍّ، فقد قال آدم: (ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) بالصيغة الفعليِّة الدَّالة على الحدوث والطُّروء للدِّلالة على أنَّها زلة طارئة وليست معصية إصرار، بينما قال ذريته: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) بالصيغة الاسميِّة الدَّالة على الثّبوت على الظُّلم والإصرار، ومن ثمَّ جاءت الخاتمة ملائمة لذلك، فتاب على آدم –عليه السَّلام- وزوجه لمَّا كانت المعصية طارئة وحادثة؛ بينما أهلك الآخرين لمَّا كانت المعصية ثابتة.