سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الأنانية المطلقة.. والأنانية المقننة ! كثرة التضحيات لا تعني صلاح المجتمعات، بل تعني وجود المهملين والمتقاعسين بمقابل الأبطال المضحّين والخارقين الذين ترمى الأثقال الصعبة على كواهلهم
توجد إدانة «لفظية» صريحة للأنانية في معظم المجتمعات البشرية، فالأنانية المدانة هذه، ترمز للنزعة الفردية المتطرفة على حساب المجتمع والمحيط، ويسعى الأنانيون ضمن هذه النظرة لتحقيق نزواتهم ومطامعهم الشخصية الضيقة، وإن أدى ذلك لسرقة حقوق الآخرين والعبث بمصائرهم وأحلامهم وطموحاتهم. هذه الأنانية -وإن أدينت بصورة لفظية- إلا أنها لا تدان بنفس المقدار فيما يتعلق بالسلوكيات، فلو كانت الإدانة متطابقة في اللفظ مع السلوك لما وجدنا أنانيا واحدا، ولساد الإيثار والإخلاص والإخاء في كل مكان! والواقع أن الأنانية ليست دائما بهذا السوء إن كانت تسير ضمن نطاق معقول، فالحفاظ على المصالح الشخصية، والحقوق الفردية، ليس أمرا مشينًا على الدوام، طالما أنه لا يضر بالآخرين ضررًا مباشرًا وواضحًا. ومن ثم فإن الإدانة الكاملة للأنانية هي أمر لا يمكن فهمه إلا على أنه رياء ونفاق، وما أن تتاح الفرصة لهؤلاء المرائين حتى ينقضوا على مصالح الآخرين لصالحهم الشخصي، وكأن مواعظهم المملة والرتيبة كانت نفثا في الهواء! وهذا ما يجعلني أقسم الأنانية إلى موقفين: الأنانية المطلقة.. وهي التي لا تتقيد بأي قانون أخلاقي وتشريعي ولا تراعي وجود الآخرين. وأبرز من كتب عنها هو الألماني «ماكس شتيرنر» منتصف القرن التاسع عشر وحاول الدفاع عنها بكافة السبل. ولا يخفى على القارئ ما لهذه الأنانية المطلقة من آثار مدمرة على المجموع، ولا يحتاج المواطن العربي لضرب الأمثلة الكثيرة وجلب العينات الواقعية على هذا النموذج الأناني الصرف، فما تعيشه بعض البلدان العربية من انتشار الاستبداد والاضطهاد وكثرة الفساد وضياع حقوق البشر ليست إلا نماذج واضحة على ما أدت إليه هذه الأنانية الشمولية من مهالك، وما أوقعته من موبقات. أما الأنانية التي أدعو لها فهي الأنانية المقننة أو المقيّدة: وهذه تتحقق في أفق الدولة الحديثة والمدنية حصرًا، وفيها يلتزم «الأناني» بالتشريعات، ويراعي حقوق الآخرين ولا يعترض عليها، ومثل هذه الأنانية المقننة وإن كانت بالأصل تتمحور حول الذات والفرد إلا أنها عبر تحقيق مكاسبها وممكناتها تفيد المجموع بصورة غير مباشرة. ونجد فكرة شبيهة بهذه في كتابات «آدم سميث» عن الاقتصاد الكلاسيكي والمنافسة الفردية المحمومة ودورها في تنشيط السوق وطرد الكساد. والواضح أن هذا النوع من الأنانية المقننة من شأنه أن يُخفِّف الرياء السائد حول «عدم» الأنانية، ومن جهة أخرى فإنه يضع قيودًا كثيرة حول الأفراد ويحدد مساراتهم وطموحاتهم مسبقا، وبصورة أكثر تنظيما. بل ونجد أصلا لهذه الأنانية «المقننة» في الإسلام حيث ألغى التباين بين الدنيا والآخرة، وحض على متابعة كل فرد لشؤونه والحفاظ على مصالحه ومكتسباته الذاتية، وعدم التناقض بين المسجد (مكان التعبد) والسوق (مكان الرزق) وعدم وجود الفجوة بين الفرد والجماعة، فالطريق للآخرة يمر بالدنيا، والدنيا مكان للعمل الصالح، وهذا العمل ينقسم لمعاملات وعبادات، والمعاملات تشمل صنوفًا من السلوكيات اللا محدودة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، والتي يقوم بها كل فرد على حدة أو بالتعاون مع الجماعة. وهذا ما يُخالف روحانية المسيحية المحضة حيث الإعراض التام عن الحياة وتجاهلها، أو حتى في الديانات الهندية والبوذية حيث التصرف المتطرف المعاكس تمامًا للملذات بكافة أشكالها. إن الرياء المنتشر حول وجوب التضحية ونكران الذات مقابل السكوت عن نقد المتقاعسين والفاشلين لهو أمر لا يمكن فهمه إلا حين نعتنق الأنانية المقننة ونضع النقاط على الحروف وندين جميع المتخاذلين والمرائين فهؤلاء من شأنهم أن ينشروا بطولات وهمية بين الناس ويخدرونهم بالأماني المستحيلة، وهو ما يساهم في إغفال النجاحات الفردية وتحقيق الأهداف المشروعة لكل فرد. والغريب أن ازدواجية (الأنانية المطلقة/ الرياء) ترفض الاعتراف بالأنانية المقننة! فالفوضى والعشوائية وتراكم الأدوار على شخص واحد (يتجسد غالبا بأب العائلة أو الأم العصامية أو المصلح الاجتماعي ورجل الدين الصالح) تتناقض مع توزيع الأدوار وتقنينها وتنظيم عشوائيتها وجعل كل فرد يسعى خلف مصالحه بطريقة عقلانية دون أن يورط نفسه بأعباء ومتاعب لا تمت له بصلة، فكثرة التضحيات لا تعني صلاح المجتمعات، بل تعني ببساطة وجود المهملين والمتقاعسين بمقابل الأبطال المضحّين والخارقين الذين ترمى الأثقال الصعبة على كواهلهم. أما لو كان الجميع أنانيا بصورة معقولة، فإن مشكلات الكسل والفساد المتفشي في المجتمعات ستتضاءل وتتقزَّم أمام السعي الحثيث خلف الطموح الفردي، فيما لو أهمل الأفراد أنفسهم -دون أن يُجنى عليهم من المجتمع- فإنهم بهذه الحالة هم من اختط مصيره الأسود بيده. [email protected]