مدخل: كم بودي لو تعمل المكتبات العامة في الوطن العربي على نشر إحصاءات بعدد المترددين عليها، وعدد أعضائها (من يحملون بطاقة المكتبة) وإحصاءات لحركية الإعارة الداخلية والخارجية، إنني أدرك أن نشر الإحصاءات، في حد ذاته، لن يحل معضلات هذه المكتبات، إنما من شأنه أن يسهم في ذلك بنشر الوعي بأحوال تلك المكتبات بالاستناد إلى حقائق مثبتة تفهم بشكل أفضل من تكرار «التقارير الإنشائية» والمقالات المتنوعة التي «تبكي أحوال هذه المكتبات».! إن نظرة «عجلى» لأحوال المكتبات العامة في البلدان المتقدمة تبين بجلاء الأسباب التي تجعل سعي بلداننا للتقدم مثل سعي «السلحفاة»، وليعذرني المتفائلون في إطلاق مثل هذا التشبيه، إنني أطالب من يقرأ هذه الأسطر إلى نهايتها ولا يتفق مع هذا التصريح أن يبلغني احتجاجه، وسأكون له من الشاكرين. المكتبات العامة في أمريكا في دراسة علمية أجريت لمصلحة جمعية المكتبات الأمريكية - ما زالت تعطي أبعادًا حتى وإن كان عمرها يصل لنحو عقد من الزمان-، بهدف قياس استخدام المكتبات العامة ومدى تقديرات العامة لها، أجريت بالهاتف على ألف شخص ممن تفوق أعمارهم 18 عامًا، وبهامش خطأ في حدود 3%، تبين الآتي: * إن 46% منهم تستخدم المكتبة لأغراض تعليمية يتلو ذلك (46%) منهم يستخدمونها لأغراض ترفيهية. * وأظهرت الدراسة أن 62% من الذين شملتهم الدراسة يملكون بطاقات عضوية للمكتبة. * وأسفرت الدراسة عن أن 66% استخدموا المكتبة على الأقل خلال العام المنصرم إما بشكل شخصي أو بالهاتف أو بالحاسوب. * وقال 67% من الذين استخدموا المكتبة حضوريًا إنهم استعاروا كتبا، فيما استشار 47% منهم مكتبيًا، واستخدم 47% منهم أدوات مرجعية، وقرأ 33% منهم جرائد ومجلات، واستعار 25% منهم أقراصا مليزرة (CDs) أو أفلام فيديو، فيما استمع 14% منهم إلى شريط صوتي أو شاهدوا فيلمًا أو حضروا برنامًجا خاصًا. * بينت الدراسة أن 31% من الذين أجابوا عن الأسئلة (الذين شاركوا) لديهم أطفال، وأن 69% من هؤلاء قد أحضروا أطفالهم للمكتبة. وقد جاءت هذه الإحصاءات في الصفحة السادسة من صفحات الحقائق Fact Sheet التي وضعتها جمعية المكتبات الأمريكية على موقعها: www.ala.org. لكن لنرى ما يقوله في هذا السياق كل من فيلكوف Fialkoff ولفر Lifer محرر مجلة نت كونكت Netconnect، في مقدمة عدد خريف 2002م: «لم تعد تحتاج إلى بطاقة مكتبة في ولاية ميتشجن حتى تستعير مواد مكتبية، إذ بإمكانك الآن الوصول لقواعد المعلومات بالمكتبة - عن بعد - من خلال المكتبة الإلكترونية elibrary التي تعرف اختصارًا ب( Mel Michigan E. Library) شريطة أن تستخدم رخصة القيادة الخاصة بك، وفلسفة هذا الإجراء أنه متى جعلت الأمر سهلًا لغير الأعضاء في الوصول للمكتبة فسيصبحون أعضاء. وهذا السبيل الذي نهجته ميتشجن لم تكن الأولى فيه فقد سبقها إليه كل من المكتبة العامة في تشارلوت، ومكتبة مكلنبرق Mecklenburg County في شمال كارولاينا، اللتين «أبدعتا» أيضًا في استقطاب الصغار، ولهذا وقفة أخرى إن شاء الله، ليس كل المتخصصين راضين عن هذا التوجه باستخدام رخص القيادة بدلًا من بطاقات المكتبة، حيث «تبرّم» أحد محرري Library Journal من ذلك بحجة أن هذا «سيفقد» المكتبات هويتها. لكن حزني الشخصي أكبر كون معظم مكتباتنا - للأسف - لا تملك هوية فضلًا عن أن تخشى فقدانها! لننظر في أحوال مكتباتنا العامة ولنتحقق كم منها مجهزة بحواسيب حديثة؟! وكم منها تستخدم الإنترنت وتتيح استخدام الإنترنت للمستفيدين؟! وكم منها تفعّل ذلك على نطاق واسع؟! حتى لا نفاجأ بمكتبة تقول نحن نفعل، فلربما وجدنا عددًا محدودًا لديها خدمة تعتمد على جهاز أو اثنين (ومثل هذه خارج حسابات مقارنتنا) كما أود أن أتساءل عن مستوى العاملين في هذه المكتبات، وكم منهم يحسن العمل بلغة الإنترنت؟! لاشك أن الحال يُحزن..! المكتبات العامة في المملكة المتحدة * يوجد هناك أكثر من 4800 في المملكة المتحدة منها 700 مكتبة متنقلة؛ بالإضافة إلى 20 ألف موقع خدمة في المستشفيات والسجون ومراكز كبار السن..الخ. * يمتلك نظام الخدمة بالمكتبات العامة أكثر من 130 مليون كتابًا تملأ 3600 كم من الرفوف، وهو أطول من السكة الحدية التي يبلغ طولها 3149 كم؛ *58% من سكان المملكة المتحدة يحملون بطاقات عضوية، أي 34 مليونا من مجموع السكان الذي يقدر ب 60 مليون نسمة. * تمت 377 مليون زيارة للمكتبات العامة في العام 95/1996. * ولنقارن ذلك ب(33) مليون مشجع حضروا موسم مباريات كرة القدم في نفس العام. * عشرة ملايين شخص يزورون المكتبات بشكل دائم، بمعنى مرة كل أسبوعين. * يعتبر الوقت الذي يقضى في المكتبة خامس أفضل وقت للمواطن الإنجليزي. كندا والمكتبات العامة تلعب المكتبات العامة دورًا مهما في حياة الكنديين، ويمكن استنتاج ذلك من خلال الإحصاءات التالية: * 34% من الكنديين زاروا المكتبة مرة واحدة على الأقل خلال العام 1995، وهو رقم يفوق الذين حضروا حدثًا رياضيًا (31%) أو عدد الذين حضروا حدثًا فنيًا موسيقيًا (30%) في نفس الفترة. * في مقاطعة انتوريو وحدها تمت أكثر من 72 مليون زيارة للمكتبات العامة خلال العام 1995. * 69% من سكان نيبيان Nepean يذهبون إلى المكتبة تليها نسبة 65% تذهب للسينما. * تستقطب المكتبات العامة أكبر عدد من السكان متفوقة بذلك على كل المؤسسات التعليمية والثقافية الأخرى. * يقدم المكتبيون المتخصصون العاملون في المكتبات الريفية إجابات جيدة في مجموع أسئلة يفوق عددها 16 مليون سؤال خلال العام. * فاق ما تمت استعارته في المكتبات الريفية الكبرى في كندا 120 مليون مادة (كتب ودوريات وأشرطة وأفلام وأقراص ليزر.. الخ) خلال العام 1995 وهو ما يمثل 4-5 أضعاف سكان كندا. * نظمت المكتبات العامة في كندا أكثر من 77 ألف برنامج تعليمي وتثقيفي حضرها ملايين الكنديين. * معظم المستفيدين يستخدمون المكتبة مرة واحدة على الأقل أسبوعيًا. * 44% يعتبرون كثيري الاستخدام، 52% يزورون المكتبة مرة كل شهر، فيما يعتبر 5% من قليلي الاستخدام. مكتباتنا والمستقبل إنني أدرك أن مكتباتنا العامة لم تنجح في مهمتها في الماضي القريب، وليست أيضًا بناجحة في واقعها الحالي، فهل يحق لنا أن نتساءل عن مستقبلها أم لا؟!. ولم أكن يومًا متشائمًا، فالمتشائمون هم الذين لا يعملون، لكن الأمر يحتاج أمورًا أكثر من التفاؤل وحده، أليس كذلك؟!. قبل أن استطرد عن مستقبل مكتباتنا العامة، لنعرّج قليلًا على إفادات أولئك الذين شاركوا في الإجابة عن استفسارات دراسة جمعية المكتبات الأمريكية آنفة الذكر لنجد أن 91% من مجموع الذين شملتهم الدراسة يؤمنون أن المكتبات ستستمر في المستقبل برغم كل ما نرى من تطورات ومن معلومات على الإنترنت!. وبرغم أن هذا الأمر يبدو مطمئنًا لمكتباتهم التي تعمل بشكل جدّي وتصرف الكثير من الجهد والمال حتى تستمر في دورها، لكن هذا الأمر لا يجب أخذه على نحو مضمون. لقد بينت دراسة مهمة رعتها شركة مقرو هل رايرسون أن مصادر المعلومات على الإنترنت Web-based أصبحت أهم وسيلة تعليمية متفوقة على المكتبات والتلقين، وهذه الدراسة ذات أهمية خاصة كونها وجهت للأساتذة في التعليم العالي من أمريكا وكندا، حيث توقع 84% منهم أنهم سيقضون وقتًا أكبر لدمج مناهجهم التعليمية في أدوات على الإنترنت، وهذه الدراسة، التي ضمنت للمشاركين فيها السرية المطلقة لأسمائهم واستمرت 3 سنوات في جمع البيانات، بينت أن 83% من الذين شاركوا في الدراسة يرون أن تقنية الإنترنت عامل أولي لنجاح الطلاب، كما أظهرت الدراسة أن 62% من أعضاء هيئة التدريس يستخدمون الشبكة (الإنترنت) في تجهيز (محتويات) موادهم التعليمية (مناهجهم) وأن 56,2% يستخدمون الشبكة لتقديم كتبهم الدراسية (المقررات)، و51% يستخدمون الشبكة للتأكد من تقديم معلومات حديثة عن محتوى مقرراتهم. إن هذه الإحصاءات، وغيرها كثير، تؤكد يومًا بعد يوم أن البساط «يُسحب من تحت أقدام المكتبيين الغربيين الذين يعملون جاهدين «للتشبث» بمكانتهم، بينما «نغط» في سبات عميق»!. خلاصة الكلام.. لو حاولت أن أشخّص مشكلات المكتبات العامة على وجه الخصوص لأخرج بحصيلة مشكلاتها لربما ضاق المكان، فهناك مشكلات إدارية ومشكلات مالية ومشكلات أكثر - وربما أهم - تتعلق بالمكتبيين أنفسهم في هذه المكتبات، لا شك أن الدول معنية بالدرجة الأولى عن الحالة غير المرضية التي تعيشها المكتبات العامة سواء الإدارية أو المالية وهذه أمور تحدث عنها كل من كتب عن واقع وأحوال المكتبات العامة وسبل تطويرها. لكنني أشعر أن المكتبيين العرب خلال الثلاثين سنة الماضية يتحملون مسؤولية كبيرة في وصول حال المكتبات العامة إلى هذا المستوى من خلال الدور المحدود جدًا الذي لعبته المكتبات العامة في حياة الناس، الأمر الذي لم يجعل لها أهمية تستقطب من خلالها اهتمام المسؤولين، لننظر ماذا حدث في بريطانيا عندما أقفلت المكتبات العامة أبوابها لمدة شهر احتجاجًا على أوضاع المكتبيين. هذه ليست دعوة للإضراب لا تصريحًا ولا تلميحًا، لكن أريدكم أن تفكروا معي وتتخيلوا فقط لو حدث هذا هنا وأقفلت مكتباتنا العامة أبوابها من سيشعر بذلك؟ من سكان جدة مثلًا يعلم أن هناك مكتبة عامة؟ وكم من أهل الدمام والخبر يستخدم مكتبتي الدمام والخبر؟ لا شك أن مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بفرعيها في الرياض تجعلني لا أسأل هذا السؤال بحق الرياض، لكننا نريد كل مكتباتنا العامة في الوطن العربي أن تقدم خدمة كالتي تقدمها هذه المكتبة الفتية. سيقول قائل إن الفلوس تعمل كل شيء وهو ما تهيأ لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة.! لكنني، وبرغم إيماني بأهمية الفلوس في حياة المكتبات، أعتقد أن المسؤولين عن هذه المكتبة أوجدوا لأنفسهم ولمكتبتهم وخدماتها مكانة مهمة جعلت كبار المسؤولين في الدولة يقدرون دورهم ويقدمون الدعم اللازم، وهذا ما كنت أرمي إليه أن المكتبيين العرب لم «يجهدوا» أنفسهم بما فيه الكفاية لأن يكون للمكتبة مكانة مهمة في المجتمع، ولذا فلم يلتفت إليهم أحد، وبالتالي خسروا وخسرت المكتبات، وخسر المجتمع أهم وسيلة لتنميته. لا اعتقد أن المكتبيين في المكتبات العامة اليوم - مهما فعلوا - بإمكانهم لوحدهم أن يصلحوا الحال ما لم تتدخل جهات عليا وبدعم سخي ومنهج يعتمد على استراتيجية علمية تستشرف آفاق المستقبل لتعود المكتبة العامة إلى حياة الناس. الناس اليوم لا يحملون فقط صورة سلبية عن المكتبة، بل إنهم لا يحسون بوجودها، وهو أمر يحتاج إلى تصحيح دون شك، فالمكتبات الغربية التي تقدم خدمات مجانية متناهية وتقوم حتى بالإعلان عن خدماتها في الصحف والمجلات ومع ذلك تشعر أن «العامة» بدأت تذهب للأسهل - الإنترنت.! المكتبات اليوم بمختلف أنواعها تعاني من اعتماد الناس المباشر على الشبكة العنكبوتية، ولذا فأصبح لزامًا عليها التفكير في تقديم خدمات لا تستطيع الإنترنت تقديمها، لكن قبل ذلك لابد أن تجهز نفسها بتهيئة المكان وإيجاد التجهيزات المتكاملة وتطوير «الإنسان» الذي سيقود دفة إعادة حيوية المكتبات إن شاء الله. (*) أستاذ علم المعلومات المساعد - جامعة الملك سعود [email protected]