هذه معالم مختصرة لهذا الموضوع المهم جدا والحساس كثيرا، أطرحها لتستكمل فيما بعد، من خلال الدراسة والحوار حولها. فأقول: إن الحرية في الإسلام تقوم على قاعدتين: الأولى: حرية الاعتقاد، والثانية: حرية التعبير. أما القاعدة الأولى: وهي حرية الاعتقاد فهي حرية مكفولة في الإسلام: وهذا يبينه أوضح بيان أن الإسلام لا يجيز محاولة تغيير القناعات والعقائد بالقوة، ولا يقبل الإكراه في تحديد المبادئ , فلا يعرف الإسلام محاكم التفتيش النصرانية، ولا المذابح المقدسة عند اليهودية، ويتضح ذلك كله باختصار من خلال الفقرات التالية: أ أن الكافر الأصلي لا يُجبر على تغيير دينه، قال تعالى (لآ إِكْرَاهَ فِي 0لدِّينِ). ب- أن المرتد عن الإسلام يُستتاب أبدا, ما دامت لديه شُبهٌ وشكوك في الدين، يظهر أنها هي سبب ردته، بلا تحديد لمدة الاستتابة (على الراجح)، ولا يُقتل المرتد إلا بعد الرد على شُبهة الردَّ العلمي الوافي وبعد إزالة أسباب الشك لديه، فإذا أصرّ على الكفر رغم عدم بقاء شبهة لديه، عندها سيتضح أنه معاند مستكبر، ليس صادقا في ادعاء الكفر بسبب القناعة، فقتله حينئذ لن يكون بسبب كفره، وإلا لوجب قتل كل كافر، وإنما لكونه مخادعا يعرف الحق ويصر على الباطل، والخداع جريمة، فكيف إذا كانت جريمةً تضرب أساس الحكمة الإسلامية (المسماة بفلسفة الإسلام) في جذورها وتهدمها من أساسها. وبالتالي: أنا لست مع من علق حد الردة بالإفساد والمحاربة، ولكني أرى أن مفهوم الاستتابة الصحيح هو الذي سوف يبين عدم منافاة إقامة حد الردة مع كلية (لآ إِكْرَاهَ فِي 0لدِّينِ). بل مفهوم الاستتابة الصحيح سيكون مظهرا راقيا جدا لسعة مجال الحوار في الإسلام، وأنه حوار ليس له خطوط حمر لا يجوز تجاوزها، فاستتابة المرتد حوارٌ يُجيز الجدل في أصل أحقية التدين بدين الإسلام وفي صحة علاقة هذا الدين بالله تعالى! وأي شجاعة وجرأة وثقة بالنفس تفوق ما قدّمه هذا الدين، من تجويزه مثل هذا الحوار في أصل أصوله، بلا أي حدود لما يجوز طرحه في ساحة النقاش؟!. ج – وفيما سوى الرِّدّة، فلا عقوبة مقررة على الأفكار في الإسلام، ولا وجود لتشريع يجيز محاولة تغيير الفكر بالإكراه كذلك، ولو كان فكرا باطلا بيقين، وقد تحدثت في موطن آخر عن دلالة موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج على عدم عقوبة صاحب الفكر المنحرف (كالخوارج) على مجرد الفكر، ونقلت أقوال الفقهاء في ذلك: من الحنفية والشافعية والحنابلة، بل كان موقف علي رضي الله عنه منهم نموذجا رائعا لسياسة الدولة الإسلامية من أصحاب الفكر المنحرف، حيث رفض عقوبتهم، ولم يقطع عنهم حقهم من المال من بيت مال المسلمين، ولم يعالج انحرافهم إلا بالحوار، مرات تلو مرات، حتى تحولوا إلى الإجرام باستباحة الدماء، فعندها قاتلهم، بعد تبنيهم جميعهم لجريمة القتل واستحلالهم لدماء المسلمين. وأما ما يصح من عقوبات المخالفين (أهل البدع) المذكورة في فقهنا الإسلامي فهي عقوبات استثنائية (خلاف الأصل) في إعطائهم حقوقهم الإسلامية؛ لأن نصوص الشرع أوجبت لكل مسلم حقوقا بمقتضى أخوته الإسلامية، وهي الأخوة التي تثبت له بمجرد إسلامه، دون أي وصف إضافي فوق الإسلام، حتى ولو كان مجرما أو فاسقا أو مبتدعا، فلا نسلبه شيئا من تلك الحقوق الإسلامية إلا استثناءً خارجًا عن الأصل، كالحكم القضائي عليه. والمهم في هذا السياق: أن تلك العقوبات لم تُشرع لإجبار المخالفين على تغيير قناعاتهم, وهذا ما لا يخالف فيه عاقل, وإنما هي لدفع مفسدة أعظم من مفسدة سلبه حقوقه الإسلامية, أو لمنعه من نشر عقائده المخالفة (ضلالاته) بطرق غير نظامية (كاستغلال الحاجة والجهل، أو الخداع، أو نشر العقائد التي تستبيح الإجرام). هذه خلاصة موجزة تبين دلائل حرية الاعتقاد في الإسلام. وسأكمل القاعدة الثانية حول حرية التعبير في المقال التالي بإذن الله.